يمكن لي وصف علاقتي بالرّاحل علي صالح عباد مقبل بالفرادة. انطلاقاً من خط الحياد أخذت منحنى صاعداً على الدوام, بلوغاً إلى ذروة الافتتان بشخصيته في سنوات النصف الثاني من أولى عشريات القرن ال21.
في منتصف التسعينات (أي في مطلع عملي كصحفي في جريدة الوحدوي المعارضة) قَدِم شخص إلى مقر الصحيفة حاملاً هدية إلى طاقم الجريدة. كانت الهدية نفيسة بالنسبة لأي صحفي, فما بالك أن يكون صحفياً شغوفاً بالتاريخ. جُلّها نسخ من جرايد ومجلات عربية (مشرقية ويسارية في أغلبها) صدرت في سبعينات القرن الـ20.
إحدى هذه المجلات اليسارية خصّصت ملفاً لتغطية أحداث مقتل الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي سالم رُبيع (سالمين). وفيه يظهر مقبل بوصفه الشيطان الأكبر ورأس الفتنة, و"القروي" المُقرّب من سالمين الذي أشار عليه باتخاذ خطوات أحادية أدت إلى أحداث يونيو 1978.
كان مقبل، حينها، في السجن، باعتباره أحد رجال الرئيس المغدور به سالمين, كانت رواية الطرف المنتصر في عدن هي التي سوّدت صفحات مطبوعات اليسار في العالم العربي. وقد أمضى عدة سنوات في السجن، وعندما خرج لم يحمل السجن داخله كما حصل لآخرين.
في فترة اطلاعي على هذا الملف، كان مقبل يشغل موقع الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الخارج لتوّه من محنة حرب 1994.
كان ثباته في الداخل في عين عاصفة التكفير والتقتيل التي عصفت بكوادر الاشتراكي وبصيغة الشراكة الوحدوية بين قيادات شطري اليم، مثار إعجاب كثيرين من خارج صفوف الاشتراكي. وبفضله (إلى جانب آخرين من البقية الباقية داخل اليمن) عاد الاشتراكي، وئيداً ولكن أكيداً، إلى موقعه في الخارطة الحزبية رغم استيهامات المنتصرين في الحرب بأن الحزب لن تقوم له قائمة إلا في كنفهم.
خلاف مجايليه الهاربين من فروات رؤوسهم. يترقرق عذوبة إذ يتذكر رفاقه المغدورين... يضحك إذا جاء على ذكر شطحة أيديولوجية، وإن استدعى موقفاً أو رأياً لمناوئ راحل اعتدل في مجلسه وتريّث ومحّص لكأنّه على وشك النطق بحكم بات. وإلى ذلك كان ساخراً فذاً لا يوفر أحداً. وقد نقل لي صديق زاره في مجلسه في صنعاء في منتصف 2013 كيف أنه ضاق من عبارات نفاق تُقال امتداحاً في الرئيس الانتقالي هادي... وهو بلهجته المُحبّبة أراد وضع حدٍ لتنميق رئيس منبت الصلة عن مقتضيات الرئاسة، وهو سأل المنمقين محتداً: شي هب (زار) محافظة منذ ترؤسه؟
في مقام سالمين، يحضر، أيضاً، الرئيس اليمني الشمالي إبراهيم الحمدي طبق رواية مقبل (وهي رواية شفهية سمعتها منه في مجلس صغير) فالعلاقة بين الرجلين لم تكن محل نقمة في الرياض وعواصم عربية وأجنبية فقط، بل إن شخصيات رفيعة في التنظيم السياسي الحاكم في الجنوب اختلقت معاذير تحول دون إتمامها. كانت هواجس انفرادهما بالسلطة تستبد بها، تماماً كما مراكز القوى في الشمال التي تيقنت أنها ستخسر نهائياً أية فرص عودة إلى السلطة إذا نجحت توجهات الحمدي داخل الشمال بالتضافر مع خطوات وحدوية تدرجية نحو الجنوب. وقد قُتل الرجلان تباعاً في أكتوبر 1977 ويونيو 1978.
كان مقبل محسوباً على طرف. وهو دفع ثمن موقفه سجناً فمرضاً. لكن ما استرعى اهتمامي (وعزّز مكانته في الوجدان) تجنبه تصدير نفسه كبطل لا يُشق له غبار (هذا ما تؤكده روايات الآخرين) ثم سيطرته الخيالية على انفعالاته وتحيزاته ومقاومته وطأة تداعيات استذكار الخسارات، وتعففه كلما جاء على ذكر الذين سجنوه حتى ليخيل لي أنه ما فقد حبيباً ولا دخل زنزانة!
يستوقفني في سيرته تلك العلاقة الفريدة برفيقه جارالله عمر؛ فالرجلان، باختلاف خلفياتهما وتمايز أسلوبيهما وتباين موقعيهما في صراعات الماضي، أسسا لتجربة سياسية فريدة (وهما على رأس هرم حزبي لاح لبرهة أن الحرب محت المسافات بين أضلعه). في تلك السنوات القاحلة من عقد التسعينات، انتقلت العلاقة بينهما من التجاور في قيادة حزب انكسر أيديولوجياً وسياسياً وأمنياً، إلى التساكن. ويمكن الإمساك بهذه الانتقالة من خلال تتبع موقفي الحزب من انتخابات برلمان 1997 ورئاسة 1999.
مقبل المثالي, مسنوداً بالأغلبية، رفض المشاركة في انتخابات برلمانية غير متكافئة وقبلوية الأحكام وتضفي شرعية على نتائج حرب1994 التي قوضت مبدأ الشراكة في دولة الوحدة، بينما جار الله الواقعي أيدها بداعي التكيف مع حقائق القوة وبهدف تحفيز القاعدة الحزبية وتسريع عملية إعادة الحزب إلى العملية السياسية.
بعد سنتين، فقط، اقترب المثالي من الواقعي، متسبباً بصعقة في أوساط مؤيديه, فالرجلان المتمايزان اتخذا الموقف نفسه حيال الانتخابات الرئاسية في 1999، بل إن مقبل صار في يوليو مرشح الاشتراكي للانتخابات المقررة في سبتمبر وبالتالي مرشح المجلس الأعلى لأحزاب المعارضة في اليمن، وفي ذلك الصيف الصنعائي الملتهب حدث أول اتصال مباشر بيني وبين مقبل، إذ توليت تحرير ونشر أول تصريح له بصفته الجديدة؛ مرشح المعارضة اليمنية إلى الانتخابات الرئاسية.
في الأسابيع التالية كنت ممن شاركوا في صوغ البرنامج الانتخابي لمرشحي الرئاسي عضواً في لجنة يرأسها جارالله عمر، وقد أوكل إليّ صوغ مقدمة البرنامج الانتخابي (التي بقيت على حالها تقريباً كمقدمة للبرنامج الانتخابي للمرشح الرئاسي للمعارضة إلى انتخابات 2006 فيصل بن شملان).
كان الرئيس الراحل صالح قد تعهد مراراً (بما أنه رئيس ديموقراطية ناشئة ترعاها واشنطن) بأن يمنح أي مرشح تتفق عليه المعارضة التزكية المطلوبة من البرلمان حسبما ينص عليه الدستور.
لكن صالح وحليفه الاستراتيجي عهدذاك التجمع اليمني للإصلاح، نكثا بالتزاماتهما وأعاقا إجرائياً ترشيح مقبل. وعوضاً عنه بذلا المغريات لإقناع المعارضة بتقديم مرشحين آخرين قبل أن يضطرا إلى الدفع بمرشح وهمي (كمحلل) يسمح شكلياً بالادعاء أن انتخابات الرئاسة في اليمن خاضها مرشحان على الأقل.
كانت تلك واحدة من مساخر الديمقراطيات الناشئة في عالم ما بعد الحرب الباردة. أراد الحاكم مرشحاً بمقاييسه لينافسه. لم يكن مقبل المرشح المرغوب حتى وإن انعدمت فرص نجاحه فالمراد عرس لا استحقاق.
واحدة من الذرائع التي تم سوقها لتبرير انقلاب تحالف سلطة حرب 1994 على تعهداته لليمنيين وللمجتمع الدولي بالسماح بانتخابات تنافسية أن مقبل حاد وفج في خطابه ولا يضمن أحد ما الذي يمكن أن يقوله في مهرجاناته الشعبية التي يلزم القانون وزارة الإعلام ببثها في وسائل الإعلام العامة (الإعلام الحكومي).
وقد قيل حينها أن لا خشية لدى السلطة من مقبل لكن مستلزمات ديموقراطية اليمن الناشئة لا تتيح إجازة ترشيح معارض منفلت اللسان! كانت تلك مجرد حُجة، فالأكيد أن الرئيس صالح لم يرد منافساً عصياً على الترويض والترهيب، والإصلاح لم يرد انتخابات رئاسية لها زخم ينجم عنها ولادة كتلة شعبية حقيقية تمهد لقيادة الاشتراكي للمعارضة اليمنية تالياً. وفي وقت لاحق قال لي قيادي رفيع في الإصلاح إن حزبه لم تصبه لوثة فيأمر نوابه بالبرلمان بتزكية أمين عام الاشتراكي، فالإصلاح الذي أعلن ترشيح حليفه الاستراتيجي صالح يعرف جيداً المزاج الشعبي ودخول مقبل معترك الانتخابات، ضداً على الإصلاح والمؤتمر، سيرفع شعبية الاشتراكي وسيوفر للمعارضة قاعدة شعبية متماسكة على حساب حزبي السلطة.
في غمرة الحرج الرسمي لسلطة حرب 94 (كان هذا اسمها في أدبيات راديكاليي المعارضة في التسعينات) دشنت أبواق "سلطة الحرب" أوسع حملة تشهير لتصفية مقبل معنوياً لتبرير عدم صلاحيته كمرشح انتخابي. كان التركيز في الحملة على ادعاءات بدمويته وأن الرجل قَتل بيديه معارضين وسحل علماء دين (كانت هذه لمسة تجمع الإصلاح الإسلاموي في حملة تصفية سمعة مرشح لم يسمح له أصلاً بخوض الانتخابات).
لاحقاً تعمّقت صلتي بالأستاذ مقبل. كان يغمرني بالود كلما التقيته ويسعد إذا زرته في بيته في صنعاء أو في عدن.
مرة كنت رفقة صديقين في مقيله بمنزله في خورمكسر. وقد التقطت عيناي "سحلية" على الجدار خلفه. أومأت إلى صديقي فهمي السقاف بأن على أحدنا أن يتولى مهمة التخلص من هذا الوافد المثير للاشمئزاز. همس في أذني محذراً من مغبة أي تصرف منفرد متهور قد يسبب إهانة عميقة لمضيفنا. قال لي إن الرجل يتأذى من قتل أي كائن.
كان ذلك مدعاة لإعادة قراءة شخصية الرجل بعيداً عن تقولات خصومه. وفي مجلس لاحق كنت جالساً قبالته بينما هو يطالع العدد الأسبوعي من "النداء"، وقد وقعت عيناه على عناوين ترويجية في الصفحة الأولى لشهادة مناضل من مناضلي الجبهة القومية هو الأستاذ القدير عبدالحميد الشعبي عضو المكتب العسكري للجبهة. رفع عينيه عن الجريدة وصوبهما نحوي قائلاً بنبرة امتزج فيها الود والوعيد: سامي، ماذا يدفعك لأخذ شهادة من هذا الرجل الذي لديه ثارات مع قيادة الحزب؟ أجبته بأن الشهادة جديرة بالقراءة بمعزل عن أية تصورات وتحيزات مسبقة. بعد أسبوع كنا مجدداً في موقعينا في مقيله وعدد النداء الجديد بين يديه محتوياً على الحلقة الأولى من شهادة الشعبي. وهو سارع إلى تصفحها. عيناه غرقتا في الصور التي تغطي أحداثها وبينها صور عديدة لأبرز مهندسي حركة التحرر الوطني في اليمن الجنوبي فيصل عبداللطيف الشعبي بينما عيناي كانتا ترصدان انفعالاته. يظهر فيصل في صورة تعود إلى مطلع الستينات مع بعض أقاربه في مطار عدن قبيل مغادرته إلى القاهرة. أمعن مقبل النظر فيها وأدامه قبل أن يقول بصوت حزين مسموع: كم كان جميلاً!
بدا لي لحظتها شديد العذوبة. كانت عبارته تلك بمثابة اللمسة الأخيرة على صورته التي تشكلت في وجداني: سياسي غني النفس لأنه قليل الرغبات، يحيا بسلام متحرراً من مظاهر وأبهة السلطات (أنظمة وتنظيمات)، متخففاً من ضغائن وآثام الماضي، ومتحرراً من دواعي طلب الاعتراف بجدارته الزعامية... سياسي من فصيلة مهددة بالانقراض في بلد منكوب برؤسائه وصغائرية حزبييه وسياسييه.
عن نيوز يمن
علي صالح عباد: خواطر عن أحد أنبل اليمنيين
2020-05-17