الدكتور ياسين سعيد نعمان يكتب عن: صراع الإرادات على أرض العرب
لم يقدم عام 2006 أي دليل على أن العمل العربي المشترك قد خطا أي خطوة إلى الأمام، أو أن راسمي السياسة في هذا الميدان قد برهنوا على إدراك جاد للمخاطر الحقيقية التي يتعرض لها العرب بسبب إخفاقاتهم المتلاحقة في تحقيق أي تقدم ولو بسيط على صعيد التعاون والعمل العربي المشترك.
إن عام 2006 هو من الأعوام التي كان يمكن أن تدفع بتعاون مثمر بين البلدان العربية، بسبب التحديات الكبيرة التي واجهها العرب في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال وغيرها من البلدان التي تماوجت فيها الأوضاع السياسية والاجتماعية كتعبير عن عدم الاستقرار الذي بات يهدد المنطقة العربية برمتها.
ولم تستطع الفوائض المالية، التي بلغت في منطقة واحدة هي منطقة الخليج العربي ما يزيد على ستمائة مليار دولار حتى عام 2005، أن تبعث الأمل في الوطن العربي بحل مشكلة الفقر ولو جزئياً، بسبب غياب آلية وحوافز انتقال رؤوس الأموال بين البلدان العربية، ناهيك عن غياب برامج الاستثمار وكذا الحوافز والبيئة المشجعة للاستثمار الاستراتيجي في البلدان العربية.
إن الفقر، والتراجع المستمر في مستوى المعيشة والخدمات الاجتماعية، وتدني مستوى التعليم، والبطالة المتفشية بين الشباب وتزايد معدلاتها على نحو غير مسبوق، وغياب الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية، أوجد بيئة صالحة ومناخاً ملائماً لنشوء بؤر العنف والتطرف والإرهاب.
لقد أدى تراجع الاهتمام الامريكي على وجه الخصوص بقضية الديمقراطية والحريات في الشرق الأوسط إلى إعادة بناء فكرة «الدولة المستقرة» في الوعي السياسي الاقليمي، على حساب الديمقراطية والحريات السياسية والفكرية. الأمر الذي كان له الأثر السلبي البارز على الحراك السياسي الذي كان قد بدأ يشكل قيداً على سلوك الدول المستبدة من ناحية، ويحاصر بؤر العنف والتطرف والإرهاب من ناحية أخرى.
وتعرضت الدولة الوطنية إلى هزات عميقة بتأثير البنى ما دون الوطنية، وبالذات الطائفية، التي باتت تشكل تهديداً حقيقياً للدولة الوطنية المدنية - العراق ولبنان والسودان نموذجاً. وهو ما عكس نفسه سلباً على معظم الدول العربية التي باتت الطوائف والأقليات فيها تتجه إلى المقاومة لتحسين وضعها بسبب اعتماد النظام الرسمي العربي «القوة» لقهر الطموح الوطني ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي يتساوى فيها أبناؤها في الحقوق والواجبات.
إن غياب استراتيجيات واضحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، قد جعل «التنمية» تدور في حلقات مفرغة من التجارب الفاشلة التي أعادت إنتاج الفقر في أكثر صوره مقاومة لجهود ما يسمى بمكافحة الفقر، وهي جهود فاشلة بكل المقاييس، حيث تركز البرامج التي تكرس لهذا الغرض على معالجات جزئية قصيرة لبعض ظواهر الفقر دون ربطها بخطط تنموية شاملة للقضاء على التخلف وعلى العوامل المنتجة للفقر. إن ظاهرة التخلف في الوطن العربي تتجلى في أكثر صورها وضوحاً، ومنها عدم ملاءمة البيئة السياسية لتنمية مستدامة بحلقاتها المترابطة. فهذه البنى غير المستقرة والفاسدة والمكتظة بعناصر الإستبداد، والمناوئة للإبداع، لا تقدم للتنمية الحد الأدنى من الشروط لتحقيق أهدافها في القضاء على التخلف. إنه بمجرد أن تبدأ التنمية بإنتاج شروط موضوعية تتجه بمسارها نحو تسوية المصالح الاجتماعية بما يؤدي إلى تهيئة المجتمع للإنخراط في هذه العملية الطويلة والمعقدة بروح التضامن والشعور بالمسؤولية المشتركة، إلا وانبرت القوى الكابحة لتغيير مسار العملية وشروطها نحو إعادة إنتاج مصالحها هي، على النحو الذي يغلق حلقات التنمية عند مستويات متدنية لا تؤهلها لتحقيق التراكم المطلوب لعملية إعادة الإنتاج الموسعة.
لقد أدى تماثل الهيكل الانتاجي للدول العربية من ناحية، وبناء جسور التبعية الاقتصادية للدول العربية كل على حدة مع الدول الصناعية، إلى بطء تنفيذ برامج التكامل الاقتصادي العربي. ناهيك عن غياب الإرادة السياسية التي تشكل العائق الأكبر أمام تحقيق هذا الهدف.
ومما يعكس دلالة واضحة للوضع المأساوي الذي يمر به العرب في اللحظة الراهنة هو أن الجميع يتحدثون عن مشاريع خارجية تصطرع فيما بينها جاعلة من الساحة العربية مكاناً لاستعراض عضلاتها. في حين يغيب المشروع العربي، المقاوم على الأقل، لجعل بلاد العرب ساحة لتصفية الحسابات «الخارجية» فيما بينها. يتحدثون عن مشروع إيراني ومشروع امريكي جعلا من الساحة العربية مكاناً لتصفية الحسابات فيما بينهما. ما الذي يعنيه ذلك؟!
إن ذلك يعني فيما يعنيه أن المنطقة العربية قد باتت منتجة لمصالح أجنبية تتفوق من حيث أهميتها الاستراتيجية على المصالح المتبادلة فيها بين دولها، مما يجعل التفكير في حمايتها مسألة تخرج عن نطاق الفعل الجماعي لهذه الدول. وهو ما يعكس السبب الرئيس لغياب المشروع الاستراتيجي الموحد لمستقبل المنطقة، والذي بمقدوره وحده فقط أن يحمي المنطقة من المشاريع الأجنبية التي تهدد بصراعها على أرض العرب استقرار المنطقة ومستقبل تطورها.
إن ما نشهده اليوم من استقطاب سياسي وأمني وطائفي واقتصادي في المنطقة العربية إنما يعكس حالة مخيفة من التردي الذي ربما يضع المنطقة، فيما لو واصل هذا الاستقطاب بناء آلياته القوية دون مقاومة جادة، على شفى حروب أهلية ومواجهات تديرها المشاريع الخارجية. ولا يلوح في الأفق أي جهد مقاوم لمواصلة بناء هذه الآليات في قلب المنطقة العربية بالإعتماد على إسناد سياسي أو طائفي مفرغ من هويته الوطنية أو القومية.
إن مستقبل منطقتنا العربية يجب أن لا يبقى دالة فيما سيتمخض عنه صراع هذه المشاريع الأجنبية على أرضنا من نتائج. ففيما لو قرر العرب انتظار هذه النتائج بهذه الروح التي سُلبت منها المبادرة وسُلب منها الإحساس بخطر هذه المشاريع أياً كانت نتائجها، فلا شك أن مشكلات المنطقة ستزداد تعقيداً، ولن يكون بإمكان العرب أن يقرروا مستقبلهم على النحو الذي مازالت تسمح به الظروف اليوم رغم تعقيداتها.
إن ما يجعلنا نؤكد على أن الظروف ما زالت تقدم للعرب فرصة ذهبية لإنتاج خيرات عربية لتقرير مستقبل المنطقة على النحو الذي يؤمِّن لأبنائها العيش بسلام ويؤمِّن لهم السير على طريق التنمية المستدامة، هو أن عدداً من عناصر القوة التي تتمتع بها المنطقة العربية مازالت تعمل بإيجابية لصالح إنتاج هذه الخيارات بما في ذلك صياغة المشروع الاستراتيجي الذي سينقل العرب من خندق الدفاع الدائم إلى موقع المشاركة الايجابية والفعالة في تقرير مستقبل الشرق الاوسط والسياسة الدولية. وباضطلاعهم بهذه المسؤولية الكبرى ستتلاشى الخلافات والتباينات الصغيرة الداخلية التي تعطل التكامل وتقضي على فرص إنتاج هذا المشروع.
إن من عناصر القوة تلك هو ما أثبتته التجربة التاريخية وحتى اليوم من أن التحالفات الخارجية لأي بلد عربي لم تستطع أن تحل محل الحاجة للتضامن العربي سواء في صورته الإقليمية أم العربية عموماً. بل إن هذا التحالف تكون كلفته باهضة، ولا تعمل آلياته لصالح هذا البلد دون تضامن واسع يؤمِّن لمصالح أطرافه الحماية اللازمة. إن هذا العنصر يعمل لصالح التضامن والتكامل العربي. والذين يضطلعون اليوم برسم السياسات لا يستطيعون ان يتجاهلوا هذه الحقيقة التي أفرزتها التجربة التاريخية.
من عناصر القوة التحول الهام في البنية الثقافية، والذي يتجاوز في نموه العامل السياسي. وهذا من شأنه أن يدفع بتحولات هامة على الصعيد السياسي تعكس الحاجة للديمقراطية والتعددية السياسية وإطلاق الحريات الفكرية. وهذه من الممكن أن تعيد صياغة الموقف من القضايا الاستراتيجية الكبرى. فالروابط التي ستنشأ بين العرب، سواء عبر النظام المؤسسي المعتمد في تكونه على هذه العناصر أم عبر العلاقات المباشرة بين فعاليات المجتمع العربي التي تنتجها المصالح المشتركة، من شأنها أن تخلق شروطها الملائمة لعمل عربي مشترك يمكِّنه من صياغة مشروعه الاستراتيجي لملء الفراغ الذي تملأه اليوم المشاريع الأجنبية.
من عناصر القوة أيضاً الشعور بالحاجة إلى التجمعات الإقليمية التي من الممكن أن تؤدي وظيفة انتقالية وتعبوية لصالح التكامل العربي، وترجمة ذلك عملياً في قيام بعض التجمعات، والتي يعد مجلس التعاون لدول الخليج العربي أكثرها نشاطاً وانتظاماً. فهذا المجلس الذي يضطلع بمهمة معقدة في أكثر الأقاليم العربية تعقيداً لأسباب اقتصادية وجيوسياسية وأمنية، استطاع إلى حد كبير أن يملأ الفراغ في منطقته عبر تنسيق سياسات دوله، لولا أن التحديات التي يواجهها هذا الاقليم تجعل الجهد المبذول يبدو وكأنه أقل مما يجب أن يبذل، وهو ما يجعل توسيع رقعة التعاون للحفاظ على أمن واستقرار الإقليم مسألة في غاية الأهمية.
من عناصر القوة أيضاً نشوء قطاع رأسمالي ومنظمين وشركات أموال ومستثمرين بإمكانهم، لو حُرروا من هيمنة الدول، أن يلعبوا دوراً طليعياً في إنتاج الشروط اللازمة لتكامل اقتصادي عربي. وهذا القطاع الذي يعوَّل عليه في نهوض الأمم ما زالت قدراته معطلة بسبب القيود التي تفرضها السياسات الحكومية، الأمر الذي يجعله يتجه بجانب هام من نشاطه إلى خارج المنطقة العربية.
إن كثيراً من عناصر القوة الكامنة يمكن استعراضها كدليل على أن الحياة ما زالت تقدم الفرصة للعرب ليتجاوزوا حالة الهزيمة والإنكسار, إلى الوضع الذي يتمكنون فيه من استيعاب وإنتاج شروط النهوض التي سبقتهم إليها الكثير من الأمم.
الدكتور ياسين سعيد نعمان يكتب عن: صراع الإرادات على أرض العرب
2006-12-26