جمال جبران يكتب عن " عودة الألماني إلى رشده "
*رشيد الضعيف
(1)
يُحصِّن الكاتب اللبناني رشيد الضعيف نفسه إذ يعمد إلى اختياره «عودة الالماني إلى رشده» عنواناً لعمله الحكائي الصادر حديثاً. نفترض ذاك التحصن ونحن نتلمس ضواحي ما ذهب الضعيف مشتغلاً عليه في «حكاية» بحسب مااسماها، امتدت على مساحة 92 صفحة من القطع المتوسط صادرة عن دار رياض الريس.
الحكاية تسرد واقعة حقيقية عاشها رشيد الضعيف حال اشتراكه في برنامج (ديوان شرق -غرب) للتبادل الثقافي بين لبنان وألمانيا. يتطلب البرنامج إقامة الضعيف في برلين لمدة ستة اسابيع برفقة كاتب الماني هو يواخيم هلفر، على أن يقيم هذا الأخير في بيروت لمدة ثلاثة أسابيع، «لا يبين الكاتب أسباب تفاوت المساحة الزمنية المتاحة لكل منهما».
البرنامج الذي تموله الحكومة الالمانية وينظمه معهد جوته ومؤسسات المانية اخرى يهدف بدرجة اولى إلى إقامة حوار ثقافي بين الكُتَّاب لا سيما المنتمين لثقافات مختلفة.
ولكن هل في مناسبة كهذه، الكثيرة مثيلاتها، وما سيكون فيها داعياً ومبرراً لصنع حكاية مطبوعة، لها أن تأخذ من وقت صاحبها الكثير، خصوصاً وهو، إضافة لحرفة الكتابة، استاذ جامعي له انشغالاته وعليه واجبات؟
(2)
للرجل إذن، و هو المعروف بحرفيته واحترافه، ما يستحق الحكي. للتجربة التي عاشها فرادتها وأسباب دافعة كيما تخرج علينا عارضة خلاصة ستة اسابيع زائداً ثلاثة أخرى، الأولى في برلين والثانية في لبنان.
اتصال هاتفي يفتتح الحكاية يجريه توماس هارتمن مدير البرنامج من المانيا برشيد الضعيف ليخبره أمر اختيارهم للكاتب الذي سيعمل معه طوال مدة اقامته في برلين.
وكان يواخيم هلفر وعمره تسع وثلاثين سنة، «لكن اللافت أنه أصر على إعلامي بأنه مثْليَّ! فقلت له، لما رأيته يصر، إن هذا شيء يخصه ولا دخل لي فيه، فقال: أوكي، ولكنني رأيت أنه من واجبي إخبارك لاكمال معلوماتك عنه». ص (9).
انتبه الضعيف ان صوت الرجل كان محملاً بشيء من حرج وهو يكلمه على تلك النقطة تحديداً.
كان من البديهي أن يفطن الضعيف لسبب اصرار هارتمن على إعلامه بأن رفيق رحلته مثلي فهو في نهاية المطاف عربي، «العرب يرفضون القبول بالمثلية كحق من حقوق الانسان، كما هو حاصل منذ مدة في المانيا». ص(10)، كما أدرك الضعيف ان هارتمن أراد وبكل بساطة إعلامه بطبيعة الكاتب هذه لأنها طبيعة يجب ان يتم الأخبار عنها خصوصاً إذا كان المعني رجلاً.
وهناك جانب آخر، فبحسب متطلبات البرنامج على يواخيم هلفر الاقامة في بيروت لمدة ثلاثة اسابيع ولهذا الأمر، والمعني مثلَّي، له أن يتسبب في بعض الاشكاليات له من جهة ولرشيد الضعيف من جهة أخرى. فالأول، يواخيم، سيأتي إلى مجتمع مازال القانون فيه يسمح بسجن المثليين وذات المجتمع ورفضه هو ما يدفع بعض المثليين إلى الانتحار بسبب شعورهم باليأس في محيط رافض لهم. والثاني، رشيد الضعيف، وعلى الرغم من كونه استاذاً جامعياً وكاتباً حديثاً إلا أنه في نهاية المطاف ينتمي إلى بيئة كان النقاد العرب القدماء فيها يصفون الشعراء الكبار المبدعين بالفحول. «والمثلية عندنا عمل مُشين معيب يجب قمعه، وجرم يُحاسب عليه القانون. والمثليون يُسمَّون شاذين. والممارسة المثلية هي إتيان بخلاف الطبيعة» ص(11)، كما يعترف الضعيف أنه «من بيئة تحتفل بالذكورة وتحتفي بها، ويحلو لها أن تفخر بها كلما سنحت مناسبة. والأب عندنا يكنى باسم ابنه البكر، والابن البكر على اسم جده». ص(11). هذا على الرغم من انه شديد الانتباه دائماً إلى مسألة أخذه مسافة من سلوك الجماعة التي ينتمي اليها ومن «مفاهيمها وايديولوجيتها».
كما يقول إنه من الذين يمارسون وبشكل دائم إعادة النظر في قناعات الجماعة بل وفي قناعاته الشخصية ايضاً إلا أن «كثيراً من مفاهيم الجماعة تتسلل إليَّ وتفعل فعلها فيَّ بدون أن يكون ليقظتي أثر عليها..» ص(12). وعليه يذكر كيف انه أحس بفرح كبير أول مرة جاء ابنه فيها مع رفيقة له واختلى بها في غرفته.. «تأكدت من رجولته. اكتمل» ص(12) فقد كان رشيد الضعيف يخاف على ابنه خوفاً عظيماً بسبب أمرين: أن يدمن المخدرات وأن يصير مثلياً.
(3)
في برلين تبدأ رحلة رشيد الضعيف، أمر اقتحامه لعالم المثلية، ملامسة اصابعه لمفاتيح فهمه لأمر تفضيل رجل لرجل وعزوفه عن الجنس الآخر. يستمع لقصة يواخيم وأمر تعلقه بـ«نون» الذي يكبره بثمان وثلاثين سنة، تعلق مستمر منذ ما يزيد عن عشرين عاماً لم يفترقا خلالها أبداً «يسكنان في بيت واحد وينامان في فراش واحد ويتشاركان كل شيء كرجل وامرأة زوجين، ولم يؤد خلاف بينهما يوماً إلى الطلاق لأنهما في رباط حر أقوى من الرباط القانوني أو المقدس» ص (19).
في حديث له مع وكالة «رويترز» قال الضعيف: «كان لديَّ فضول الاطلاع على حياته، أحسست أن الأمر ليس عادياً أن نرى شخصاً حراً بسلوكه فشعرت بأن من الممكن ان استغل قصته أدبياً، لقد قدمت نفسها لي كعمل أدبي».
لكن الاختبار الحقيقي الأول لرشيد الضعيف حيال رؤيته لهذه العلاقة تبرز خلال اللحظات التي تسبق موعد زيارته لمنزل يواخيم الذي يعيش فيه مع «نون». قلق وارتياب مبعثه ان «رجلين يقيمان معاً هما الوسخ والاهمال وغياب المرأة» ص(29). المثلية ما تزال في تصوره وفي وعيه الباطن خزانة لتجميع الدنس والقذارة. يركز هنا على تبعات غياب المرأة عن المكان والتي تمثل النظافة والاهتمام والطهر والغيرة على أغراض البيت ومكوناته. لكن مفاجأة تحدث، وسارة.
وجد المنزل، منزلهما، كثير الضوء بواجهة عريضة زجاجية تطل على السماء فوق سطوح الاحياء الشرقية من برلين. كل قطعة اثاث فيه مشتراة لذاتها ومنتقاة لأنها المناسبة، كأنها صنعت لهذا المكان... يعترف الضعيف أنه لم ير مثل هذا البيت من قبل، مؤكداً: «لا شك ان الخوف من أثر الرجس والدنس في أنفسنا أعمق مما نتصور» ص(31).
(4)
تفتح فكرة العيش المشترك بين رجلين في ذهن رشيد الضعيف مساحات إضافية لاسئلة.موضوع التطور الديموغرافي، شعور الغبطة الذي ينتابه من تكاثر الناس وحركتهم في الاماكن. يهمه هذا الامر لكنه من الذين لا يعتقدون ان الناس تتوالد لهدف. «قد يكون هناك لا شك اسباب للتوالد لكن ليس هناك اهداف واعية على الأقل» ص (32).
تبرز هذه النقطة كموضوع نقاش بين الضعيف ويواخيم. الأول يرى ان المجتمع الذي يشرع الزواج المثليَّ هو مجتمع يعاني من علاقته بنفسه! يجيب الاخر مشيراً إلى أن هناك في كل مجتمع نسبة اثنين إلى أربعة في المئة من المثليين فماذا يُفعل بهم؟ ليرد الاول: ان تشريع الزواج المثلَّي شيء يختلف عن حق المثلَّي في تحقيق ذاته.
لكن يبدو للضعيف ان يواخيم لا يهمه كثيراً نقاش مثل هذه المواضيع من وجهة نظر لا تدافع عن حقه. معاناته حين كان صبياً من وضعه ومن خجل البوح برغبته الفعلية وبهويته الجنسية، كل هذا ظل باقياً بداخله، «الخجل! هذا ما كان يصعب تخطيه» ص(34). كان له صديق في المدرسة، انتحر، كان مثلياً.
عندما تحدث عن موقف والدته من مثليته «اجاب بقوة وحسم لافتين بأنه يكره الابتزاز العاطفي حتى الموت، يكره أن تقول له والدته أحبك إن..» ص(35) فمن يحبه فليحبه كما هو وبدون شرط!. يؤكد أنه لا يحب أن يسلك سلوكاً خاصاً حتى يصبح مصدر سعادة للآخرين، «أي أنك إذا فعلت كذا فسأكون سعيدة، وإذا لم تفعل كذا فسأبكي من تعاستي وحزني» ص(35).
لكن والدة يواخيم كانت متفهمة جداً منذ ان بدأت تطلَّع على حقيقة هوية ابنها الجنسية واستطاعت ان تقيم علاقة جيدة بشريكه «نون» بعد أن تعرفت عليه.
(5)
تنتهي فترة برلين ليجتمع يواخيم هلفر ورشيد الضعيف في بيروت لمدة ثلاثة أسابيع.
بشقرته كان يواخيم لافتاً لانظار نساء بيروت. يعترف ان هذا يرضي غروره لكنه أمر غير ذات أهمية بالنسبة اليه. هو يحب ان يلتقي بنساء، يقول، يبهجه حضور المرأة في المكان، وبخاصة إذا كانت امرأة حرة من كل التزام. في بداية انخراطه بالمجتمع البيروتي عرف الطريق إلى علب الليل التي يلتقي فيها المثليون، والمعاناة التي يلاقونها في لبنان ووصولهم إلى حدود اليأس ما يدفعهم إلى الانتحار، يؤكد على أن احترام حقوق الآخرين هو أن توافق على ما لا تحب وما لاتتمناه.
لاحقاً، يبدأ أو يرغب الضعيف في العثور على طريقة لها أن تعيد الالماني إلى رشده، جعله رجلاً (طبيعياً). يواخيم يجد انجذابه حاضراً بإتجاه كائنات ذكورية. لا بأس إذن من وضع حيلة شبيهة كتلك التي فعلتها زبيدة زوجة هارون الرشيد «لما رأت ان ابنها الامين يحب مباشرة الغلمان، وكان خليفة». وجدت لصرفه عن هذا الفعل ان تشتري له جواري صبايا في اول المراهقة وتقوم بإلباسهن لباس الغلمان على أن تقص شعورهن على طريقة الصبيان وتقوم بعد ذلك بتقديمهن له حتى يباشرهن مباشرة الغلمان فيكتفي بهن ويتخلى عنهم» ص(57).
وعليه يعمد الضعيف إلى ترتيب علاقة بين يواخيم وبين صحافية ألمانية كان قد انجذب اليها ذات لقاء سابق بشعرها القصير وغياب صدرها. رقة يواخيم معها وحنانه الكثير ناحيتها وهي المحرومة من الاثنين في بيئة لبنانية تعاملها بجفاء بسبب ملامحها الذكورية. يستند الضعيف في إمكانية نجاح ما يسعى إليه على معرفته ان يواخيم لديه ميول وتجارب مع الانثى. وما يزيد، ميله الحاضر لهاجس الأبوة.
يرغب في ابن أوإبنة، يقترح له إسماً عربياً. وهكذا إلى أن يتحقق للضعيف ما سعى إليه. «وأقمت له عرساً!». دعاه إلى قريته «أهدن» ولم يخبره بما ينوي عمله. في المساء قصدوا مطعماً صغيراً في الهواء الطلق قرب نبع ماء، كان قد اتفق مع صاحب المطعم ان يحضر لهم مائدة لعرس، وطلب مغنين وكل ما يُطرب ويزلزل الارض تحت اقدام السامعين. دعا عدداً من الاصدقاء ممن يحبون السهرات.
أقمت له، يقول رشيد الضعيف، ولا يقول «لهما» لانه في الحقيقة لم يكن يعرف «إنغريد» رفيقة يواخيم، من هي ولا ماذا تهوى وماذ لا تهوى.
في العودة، كان البيت وكل شيء فيه جاهزاً بدرجة عالية بما سمح لكل ما في الامر مروره بهدوء. في اليوم التالي صحا الضعيف قبلهما وحضر فطوراً خاصاً. «كنت أعرف أن يواخيم لا يفطر الصبح، لكنني كنت متأكداً من أن الفطور سيروق له هذه المرة» ص(87).
بعد أيام يعود يواخيم إلى برلين تاركاً بيروت وزرعه ينمو في أحشاء صديقته في البلاد التي تركها. بعد أقل من شهر على العرس الذي أقامه الضعيف ليواخيم تصله رسالة موقعة بـ«أبو سيباستيان». «إذن تأكد الآن يواخيم من أن صديقته حبلى» ص(88).
لكن يشاء الجنين ان لا يكتمل في هذه المرة راغباً ان يكون ذلك بشكل لاحق ولكن على هيئة طفلة.
أثناء لقاء الضعيف بيواخيم خلال فعاليات معرض فرانكفورت الدولي للكتاب يخبره بذلك.
(6)
في تقرير لوكالة «رويترز» عن حكاية «عودة الالماني إلى رشده» جاء أن تناول الاستاذ الجامعي الدكتور الضعيف لموضوع الجنس في روايته هذه سجل تغيراً في اكثر من مجال، لقد تناول موضوع العلاقات التي صارت تدعى الآن «مثلية» في ابتعاد عن تعبير «الشاذة» المهين.. فروى علاقة بين رجلين بدت قصة حب حقيقية. وأيضاً علاقة «زوجية» متينة كما تكون العلاقة الناجحة بين رجل وامرأة.. مع التأكيد على أن الضعيف قد وصف الامور دون إدانة ودون أي موقف خُلقي سواء أكان سلباً أم ايجاباً. هو لا يرجم ولا يصفق بل يعرض الامور كما هي أو كما بدت له بقدرة سردية جذابة.
(7)
في الصفحة ال(91) من الحكاية جاء:
«وقلت في نفسي وأنا أودعهما إن كلاماً كثيراً يجب أن يقال حتى تتضح الامور ما بين العرب والألمان.
إن كلاماً كثيراً يجب أن يُقال مدفوعاً برغبة عارمة».
--------------------
jimy
عن " عودة الألماني إلى رشده "
2006-05-31