حضرت فعالية مسرحية اسمها "Ein Himatenabend"، وتعني "أمسية الأوطان"، قدمتها فرقة المسرح، "TheaterLabor INC"، على مسرح "Theater Moller Haus" بدارمشتات -ألمانيا، ارتبطت المسرحية بسياق ثقافي عن فكرة الوطن والوطن المتعدد، عبر تجارب المهاجرين واللاجئين، بمن فيهم ذوو الاحتياجات الخاصة، الذين أثبتوا عن جدارة قدرتهم على إرسال رسالة للمجتمع أنا قادرون وبلا اختلاف، تحاكي المسرحية كيفية اندماج تلك الفئات في الوطن الجديد، كان الفنانون من مختلف الأعمار 18-84، ومن أوطان مختلفة.
في المسرحية، تجلت فكرة الوطن -البيت Heimat، الهوية وتشكلاتها في النفس البشرية، خصوصًا عند اللاجئين والمهاجرين، الوطن الجديد: ألمانيا ذات التعدد والتنوع الثقافي الفسيفسائي (ألمانيا شاملة، Inklusive Deutsch).
رسالة المسرحية، نص جديد ومختلف لقضية "النحن"، فجميعنا من أوطان وأعراق وثقافات مختلفة نحن الهنا، والهناك أيضًا، هذا النسيج المتنوع -الملون الذي يشكل معنى الوطن الجديد -الأوطان: ألمانيا بعيدًا عن سيطرة اليمين وخطابه المهيمن على صياغته مفهوم الوطن.
في المسرحية حضر سؤال الوطن -البيت بقوة، ما هو الوطن؟ معناه الظاهر والمستتر. هل الوطن وإنسانه جغرافيًا، جواز سفر، لغة، ونشيد وطني، وو... الخ؟
هل الوطن حالة شعورية؟ وهل ممكن للإنسان خصوصًا في ظل الاعتمالات التي يمور بها عالم اليوم، من عبثية الحروب والقتل والاقتتال المجاني والمجاعات وتلاشي معنى الإنسان، أن يحمل عدة أوطان وأكثر من بيت في داخله؟
أكثر من وطن، أبعد من لون..
بحس فلسفي ووجداني جمالي، استعرضت المسرحية ما تمثله هويات التنوع والاختلاف كهويات مفتوحة على قيم التعايش والمحبة والجمال، بعيدًا عن الأطر التقليدية الصارمة للسياسة ومفهوم القوميات والأديان، الجذور والأصول، والوطن الأم... الخ من الهويات الحدية والثنائيات، وما تشكله من الهويات القاتلة، في هذا السياق، يتكرر المشهد بطرح السؤال الوجودي: ما هو الوطن -المعنى؟
انسابت عبر أجواء خشبة المسرح ثيمات وجودية مؤنسنة وحانية، وعفوية، أن الوطن: هو الذي تشعر فيه بأنك إنسان، تلوذ به ومن خلاله بالراحة، بالأمان، كأنك في بيتك، تلتحفك من خلاله المساءات الملونة الدافئة والمبثوثة في كل جدار وكرسي وركن وزاوية، ولون وضوء، وقمر ونجوم، وطن ينساب عبر الرائحة، الطعام، ألبوم الصور، الموسيقى، الرقصة، آلة موسيقى، كتاب، حكاية وأسطورة، الأعياد والتمام شمل العائلة، هذه الذاكرة الجمعية لصياغة معنى الوطن، بل أكثر من وطن، أوطان أبعد من حلم، وكان ياما كان، في قديم الزمان...؟
صاغ الفنانون ورسموا بحركاتهم وتعابير وجوههم، الرقصات والموسيقى والروائح، وطن الفسيفساء الملونة التي تستوعب كل الأقوام والأجناس والإثنيات بثقافاتهم ومعتقداتهم المختلفة، كانت ذكريات أوطانهم تنساب عبر تلك الموتيفات المتداخلة التي ذكرناها اعلاه، الوطن الحاني (البيت -المساء) بعد اهتزازات البدايات في مطبات الوطن المهيمن والإقصائي، الطارد الذي عبث بنا، وجعلنا نحمل حقائبنا المترهلة كأرواحنا، ونرحل للبحث عن وطن -أوطان جديدة، بإنسان منشده نحو التعلم والتأقلم مع هويات مفتوحة، لتصل المسرحية إلى فكرة: الوطن حيث أكون هنا، حيث نجد أنفسنا، اعادتني اجواء المسرحية إلى العديد من الكتابات التي كتبها الكثير من أدباء وفناني المنفى، وإلى مقولة الروائي الألماني، توماس مان، صاحب جائزة نوبل، عندما طُلب منه العودة من منفاه في أمريكا إلى ألمانيا، بعد انتهاء الحرب، إذ قال: "ألمانيا، حيث أقف هنا"!
**
ذاكرة، أم ذواكر؟
رغم أني مازلت أتهجى اللغة الألمانية، إلا أن المسرحية وتنويعاتها، ملكت شغاف قلبي، وعزفت على الوتر الحساس الذي دومًا تثيره أسئلتي، معنى أ/ب الوطن -الأرض البيت، نفس سؤال الوجود والهويات المتشابكة، من نحن، وأيننا، ووو.
في ذلك الجو الحميمي تنقلت مشاعري بخفقة القلب الفرح والطائر مع كل حركة وإيقاع، وزقزقة عصفور، لوحة، سيمفونية، فلكلور، ألبوم صور، أوكارديون، حد البكاء، ترجمت المسرحية مشاعري-نا معنى "Heimatenabend"، حياتنا المادية والروحية التي تسكننا وتشكلنا من خلالها. معهم وعبرهم انسالت الذكريات المتداخلة، حتى اللحظة، تذكرتُ تفاصيل البيت في اليمن، المكتبة والصور، واللوحات، قلم الحبر الذي لا أستطيع الكتابة إلا به، الكمبيوتر، والجيتار، وصباحات فيروز ومساءات نجاة الصغيرة ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم، وكلاسيكيات الأوبرا، الكاميرات والراديو، كان وطني وأسرتي، وركني الحميم لتناول القهوة والكتابة والقراءة، والموسيقى، الرفقة، خروجي بكاميرتي المتواضعة لتتبع شروق الشمس ومغيبها وقت الأصايل، الناس والأسواق، وحكاوي وحشوش وهدرة "قلك بلك"، و"تذكر- ي لما كنا"...، زخات المطر، الدهشة، كم من القصص والدفاتر واليوميات وعقود الفضة والخواتم، والملبوسات التراثية، والأنتيك وحنو الجدران ورائحة الخشب والقهوة، وشاي الساعة الخامسة عصرًا وبالنعناع البلدي. كان البيت حانيًا، وملاذًا من كائنات الرعب وزومبيات الشوارع والأزقة، وأعداء الحياة.
ماذا بعد؟!
هل هو المشهد الأخير، من المسرحية -"أمسية الأوطان"، خارج الكواليس، لست أدري، في صباح بهيم، حملنا حقيبة المغادرة عندما ضاع الأمان وتشتتت الأسرة، و"قف ممنوع التصوير، الكتابة، الكلام"، والحرية انحلال... الخ، داس علينا الطغاة والأيديولوجيا والهوام العصابية المسلحة بقوة، وباتوا يتوسدون مخدتك، وينبشون الصور والحروف، ويشطون الطبل وموتيفات متحف البيت، ودفاترك، ويبصقون، ويتقيؤون عليها، نعم غادرنا للبحث عن وطن جديد ببيت آمن، ومسرح مفتوح، على الفنون والحياة.
لم نحمل في ماراثون الرحيل سوى الذكريات و"هارد ديسك" به بعض الصور، وكتاب، ووشاح، وتركنا كل شيء، نعم كل شيء كنت أنت من صنعت ورسمت البيت والجدران والمكتبة والمطبخ والشرفة وتلاوين الصباحات والمساءات، ووو.
لقد كان سؤال ما هو الوطن؟ الهاجس والمقلق، زادنا اليومي، قبل الرحيل، واشتد أكثر وانحفر خارج الوطن، كنا كقشة معلقة تتنهاهبها الرياح والعواصف، وبئر الذكريات ما إن ينفتح أرشيفها لا ينتهي. معنى الوطن الذي لم نرضَ في عز الحرب والقصف، أن نبارحه، إلى أوطان كثيرة ومغرية، ولكنا آلينا إلا أن نعيش في جحيم المليشيات الفاتكة بالأرض والإنسان، ونحن نكتوي مقدسين وراكعين، لتمثلات يوتوبيا الأرض، والفردوس المفقود، و"بلادك أينما تخلق، لا أينما ترزق"، "ولي وطن آليت ألا أبيعه، وألا أرى غيري له الدهر مالكا"، و"رددي أيتها الدنيا نشيدي"... الخ! نعم، كيف غدا الوطن -البيت جحيمًا يتضاعف ألمه ووحشته عند كل مساء عدمية الحرب والاستقتال بنا، حروب الإخوة الأعداء اللامتناهية، وتوجعك بقسوة ألم الفقد والذكرى والحنين، بتشابه كبير في تراجيديا المسرحية -الوطن -البيت، كيف يعاد التعريف به وصياغته وتشكلاته الذهنية والواقعية، كانت أمسية للبيت واللون، والحركة والموسيقى، ممشوجة بالألم والفقد، فقد التفاصيل التي تكبر عند الهجرة واللجوء.
لقد أضفت المسرحية أبعاد المخيلة الجمعية من عرض العين والحركة، والروح والإنصات، والاختلاف والهمس، الهوية، الإدماج، والاختلاف والتنوع معًا: Heimat.
لمن تقرع الأجراس:
تقرع الأجراس في المسرحية وفينا، للنجاة ووجود الوطن والبيت، ومساءاته في المشترك الذي يشكل خارطة جديدة للأوطان التعددية اليوم بهوية مفتوحة على التعايش والانفتاح والمحبة والجمال بتعبيرية قوية عن المهاجرين واللاجئين، وذوي الاحتياجات الخاصة.
تقرع الأجراس لصياغة مفاهيم جديدة عن وطنك، ليس أينما تُخلق، بل أينما تكون إنسانًا متمتعًا بالحقوق الإنسانية الطبيعية والمدنية، وطن جديد، حياة جديدة، وطن -بيتك عيدك وأسرتك والأضواء والأشجار والموسيقى، أن تجد ذاتك وسلامًا داخليًا يرفرف عليك، ويحنو عليك، ويجعلك تنام بأمان، وتحس بأن الصباح له طعم متجدد، وكذلك مساءاته وكل الأوقات، ولذا لمست المسرحية فكرة المساء في الوجداني الإنساني، ولذا حضر المساء في روح المسرحية، لأثره الوجداني الإنساني، روح السكينة والتأمل واللمة وفضاءات السماء المرصعة بالنجوم والقمر، للشروق والغروب تأملاتهما الآسرة.
**
يقول جلال الدين الرومي، عن الوطن: "لقد كنت أبحث عنك، فلما وجدت نفسي وجدتك"، ويقول:
"أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم
لم هذا التيه من أجل معشوق واحد؟
ما تبحثون عنه في هذا العالم، ابحثوا في دخائلكم، فما أنتم سوى ذلك المعشوق"، وجسدته فرقة Theaterlabor INC، فغدت صالة المسرح تصنع الفرح والألم، انسكبت أدمعنا بلا لغة، كيف للموسيقى والإشارات، أن تسري فينا من جديد عبر حلقات الإناسة في الوطن الجديد، حيث التنوع الهوياتي، وأولها الموسيقى التي صدحت معها أرواحنا، وحلقت بعيدًا في فضاءات ملونة للجميع، بمواطنة متساوية بعيدة عن خوازيق العنصرية والأطر الدينية والمذهبية، اللون، الإعاقة، المهنة، والجنس... الخ من الحقوق الأساسية والمدنية. نعم، مساحة الوطن للجميع، حيث مساحة الحوار والتفاهم الاجتماعي والثقافي الحاضر الأول لمعنى الوطن -البيت.
(ألمانيا شاملة، Inklusive Deutsch) ذات الهوية المفتوحة على تنوع الثقافات لكل فئات المجتمع من عوالم مختلفة، المهاجرين واللاجئين والحالات الخاصة، هم من يشكلون المجتمع بتلاوينه. الوطن موجود معنا، ونحن من نخلق الوطن ونؤثثه.
تحية لفريق العمل المسرحي: ناديا سوكوب، ماكس أوجنفيلد، وكل الفنانين الممثلين، وخلف الكواليس، ممن وسعوا مدار اكتشافنا لأنفسنا، وأضفوا على أمسيتنا جمالًا وسحرًا.