صنعاء 19C امطار خفيفة

النفط مقابل السماء

2025-07-06

في اللحظة التي عاد فيها المبعوث الأممي إلى المشهد اليمني، تسارعت التحركات خلف الكواليس، حيث يُطبَخ شكل المرحلة المقبلة في غرف مغلقة، تختلط فيها أوراق السياسة بالمال، والتسويات بالإقصاء، والشرعية بالأمر الواقع.

 
تشهد الساحة تنافسًا خفيًا بين جماعة الحوثي، بقيادة محمد عبدالسلام، ومكونات "الشرعية اليمنية" التي لم تعد كيانًا موحدًا، بل خارطة متشابكة تضم نجل الرئيس السابق أحمد علي عبدالله صالح بعد الإشاعات التي خرجت عن وصوله السعودية إعلاميًا، وتوسع المجلس الانتقالي الجنوبي حكوميًا، كلاعب تدفع به الإمارات ضمن معادلة جديدة للشرعية.
 
لم يعد مطار صنعاء مجرد ملف إنساني كما كان في السابق، بل تحوّل اليوم إلى ورقة تفاوض استراتيجية، بخاصة بعد تعرضه لهجمات إسرائيلية متكررة هدفت إلى تحجيم قدرات الحوثيين، ودفع الشعب اليمني ثمنها المباشر.
 
يُطرح فتح المطار الآن ضمن ما يشبه صفقة غير معلنة: فتح دائم للمطار مقابل السماح بتصدير النفط الخام من مناطق الحكومة اليمنية، وهو التصدير الذي تعطّل مرارًا بسبب قصف الحوثيين المتكرر لمواقع وآليات الإنتاج. يشترط الحوثيون تشغيل رحلات تجارية منتظمة وتحويل عائداتها إلى حساب مصرفي مشترك تديره جهة محايدة، وذلك ضمن ترتيبات تخضع لإشراف المبعوث الأممي، وبمواكبة دور نشط للمسار العُماني.
 
في قلب هذه المفاوضات، يظهر مجددًا محمد عبدالسلام فليتة، لا كمفاوض سياسي فحسب، بل كواجهة لمصالح اقتصادية إقليمية كالعادة. تقارير عدة تشير إلى إدارته شبكة شركات تجارية بعضها في القطاع النفطي الإيراني، ومن خلال واجهات محلية وإقليمية أخرى، ويُعتقد أنه يمتلك حصصًا مباشرة في كيان نفطي خاص جديد سيُستخدم كغطاء لتصدير النفط مستقبلًا، حتى بعد أن صنفت واشنطن شركاته وتعاملاته على قوائم الإرهاب.
 
ورغم هذا النشاط المالي، فإن المناطق الخاضعة للحوثيين مازالت تعيش أزمة معيشية خانقة، رواتب مقطوعة، خدمات منهارة، وقمع لأي صوت يطالب بحقوقه، والمحاسبة، أو يعبّر عن هوية جمهورية. تُدار هذه المناطق كما لو كانت مزرعة خاصة لشبكات اقتصادية وأمنية مغلقة، وعبث إقليمي، في صورة يدفع المجتمع المدني نحو العجز أو الصمت التام أو التحرك في دائرة مغلقه.
من جهة أخرى، عاد أحمد علي عبدالله صالح إلى الواجهة بعد رفع جزء بسيط من العقوبات الدولية التي ظلت تلاحقه نحو عقد كامل. رفع هذه العقوبات قد لا يمنحه فقط حرية التحرك السياسي، بل يعيد تفعيل أدواته المالية من أرصدة وأصول عقارية وتجارية تقدّر بمليارات من الدولارات، وهو اليوم يتم تهيئته للعب دور في صياغة توازنات ما بعد الحرب، بما يشمل استعادة مكانته ضمن المعادلة الإقليمية والدولية ولو بشكل جزئي.
 
أما المجلس الانتقالي الجنوبي، فيسير بخطى ثابتة نحو تثبيت حضوره في مؤسسات الدولة عبر تعيينات جديدة ومحسوبة، ويعمل على إزاحة شخصيات محسوبة على حزب الإصلاح أو تيارات جمهورية جنوبية معارضة، وتم تعيين شخصيات موالية للمشروع الذي يردد جمهورية عدن الانفصالية، وذلك بدعم إماراتي غير مباشر، وبتنفيذ من بعض أعضاء مجلس القيادة الرئاسي.
 
وبالطبع أثارت هذه التعيينات قلقًا داخل مكونات "الشرعية"، خصوصًا حزب الإصلاح الذي يواجه خطر الانكماش التدريجي، ويسعى إلى ترتيب نفسه داخليًا بحلحلة التصدع بينه وبين قادة الانتقالي إلى اتفاق جديد. لم تعد المسألة مجرد صراع سلطة، بل معركة إعادة تعريف وتجديد الشرعية نفسها، عبر تحجيم بعض قوى ما بعد 2011، وإعادة إنتاج تحالفات جديدة.
وسط هذه المتغيرات التدريجية، يظهر رشاد العليمي كلاعب يحاول تحقيق توازنات دقيقة بين المكونات والأحزاب، والتي تعيش صراعًا، لا سيما هذه الفترة، والتي تمثل حرب تعيينات في الحكومة الجديدة، لكنه لا يمتلك أدوات الحسم، بل لديه القدرة بأن يدير التناقضات بهدوء، مانحًا كل طرف ما يكفي للبقاء دون أن يُمسك أحد بمقاليد القرار منفردًا، حيث يمثل توازنًا، يترنح تحت ضغط التحالفات المتضاربة والضغوط الخليجية في آن واحد، وغياب أي مشروع وطني جامع وعدالة انتقالية كاملة تحقق على الأقل الحماية، والتي يجب أن تنعكس بشكل مملوس على الأرض، وتحلحل الأزمات الإنسانية والاقتصادية العالقة في المناطق المحررة، لا سيما في تعز وعدن وبعض المحافظات والمدن التي يعيش أفرادها الحرمان من الأمان والتمتع بموارد الأرض والخدمات.
 
في الغرف المغلقة، ربما تدور المفاوضات اليوم حول "المطار مقابل النفط"، لكنها في الواقع تغلف معركة أعمق من يملك الثروة؟ ومن يحصل على الاعتراف الدولي؟ ومن يحدد شكل اليمن الجديد؟ كل طرف يسعى لترسيخ نفوذه قبل أن تُعلن أساسيات التسوية، وتُستخدم القضايا الإنسانية كسواتر لتمرير تفاهمات اقتصادية وسياسية بين نخبة تتقاسم الثروة، وتترك الشعب بلا قرار وشراكة وبلا حماية.
 
ومع هذه المعارك السياسية الاقتصادية، تشتد الحروب الكلامية عبر المنصات الرقمية. يتبادل اليمنيون الاتهامات بالمناطقية والعمالة والطائفية والحزبية والسلالية والتخوين، وتعود جراح حراك ثورة الربيع العربي، في مشهد يكشف هشاشة الهوية الوطنية وتآكل فكرة "الدولة"، ويعكس عمق الاحتقان المجتمعي الذي لا يتحدث عنه المتفاوضون في الغرف المغلقة، بل يعكس الفجوة السياسية التي بينهم.
 
الصراع القادم لن يكون عسكريًا فقط، بل سيكون حزبيًا، وينطلق من منطلق المحسوبية، ومناطقيًا واقتصاديًا، إنه سباق محموم بين أثرياء الحرب الجدد، ومنظومات النظام السابق ومن وضعتهم السعودية تحت مساميات وظيفية بأموال شهرية باهظة لا تجدي نفعًا، سوى إسكاتهم، وتبقى النخب المتصارعة على من يسيطر على السوق والشرعية لأطول فترة ممكنة. ومع كل ذلك، يظل المواطن اليمني المتضرر هو الطرف الغائب الأكبر، رغم أنه من يدفع الثمن داخل وخارج اليمن.
 
قد تُفضي التسوية القادمة إلى إنهاء تدريجي للحرب، إذا لم يُصرّ الحوثي على جرّ اليمن إلى صراع إقليمي مع إسرائيل مجددًا، لتعيش اليمن مجددًا على سفينة السلام المؤجل. لكنها تظل مهددة بإعادة إنتاج أسباب الحرب، ما لم تُفسح المجال لصوت الجميع، بمن فيهم النساء، والشباب.
إعادة بناء الدولة لا يجب أن تُختزل في تقاسم سياسي، بل يجب أن تُؤسَّس على قواعد قانونية عادلة تحمي الضعفاء، وتصون حقوق الضحايا، كما لا يمكن أن تُترك طاولة التفاوض لأصوات المال والنفوذ وحدها، لتُحدّد المصير الاقتصادي للوطن والنخب والأصوات الموالية لها فقط، دون أطر قانونية تحمي الحقوق الجماعية، وتضمن العدالة والإنصاف والتنمية في كل إقليم ومجتمع محلي.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً