صنعاء 19C امطار خفيفة

المشھد اليمني: بين صفعات الخارج وخذلان الداخل

واشنطن والشرعية اليمنية: من الشراكة الرمزية إلى التهميش الكامل

 
في مستهل ولايته الثانية، كرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زیاراته إلى الخليج، دون أن يعقد لقاءً رسميًا مع ممثلي "الشرعية اليمنية"، المتمثلة في مجلس القيادة الرئاسي الذي يقيم معظم أعضائه في الرياض. يعكس هذا التجاهل بوضوح تغيّر طبيعة التحالفات الأمريكية تجاه اليمن؛ إذ لم تعد واشنطن تمنح اهتمامًا يُذكر لحكومة منفية ذات سيادة محدودة، بل باتت تتحرك ضمن معادلات جديدة تركّز على المصالح الاستراتيجية بالدرجة الأولى.
في مارس 2025، أطلقت الولايات المتحدة حملة عسكرية موسعة في اليمن تحت اسم "عملية الفارس الخشن"، ردًا على الهجمات الحوثية المتكررة على السفن الأمريكية في البحر الأحمر. تجاوزت تكلفة الحملة مليار دولار، وأسفرت عن خسارة طائرات مسيّرة ومقاتلات متطورة. ورغم ھذا التصعید، لم تحقق الحملة نصرًا حاسمًا، بل أسفرت عن خسائر بشرية ومدنية كبيرة، مما دفع الإدارة الأمريكية إلى إعلان ھدنة مفاجئة مع الحوثيين في 6 مايو 2025، برعاية سلطنة عمان، في تحوّل مفاجئ في نهج واشنطن.
جاء ھذا الاتفاق دون إشراك إسرائيل، ما أثار استياءً ملحوظًا في تل أبيب، ليس فقط بسبب استبعادها من التفاهمات، بل لما یحمله ذلك من دلالات على تباين متزايد في أولويات واشنطن وتل أبيب، لا سيما في ما یخص إدارة الصراعين في اليمن وغزة. ورغم أن هذا التباين لا یرقى إلى مستوى القطيعة، إلا أنه يشير إلى تحوّل في طبيعة التنسيق بين الحليفين، يخضع لحسابات ظرفية أكثر منه لثوابت استراتيجبة.
في المقابل، رحبت دول الخليج بالهدنة بحذر؛ فقد أعربت قطر والكويت عن أملهما في استعادة أمن الملاحة البحربة، بينما أبدت السعودية -وفقًا لمعهد كوينسي- تحفظات واضحة على ما اعتبرته شرعنة لجماعة مسلحة.
تعكس هذه الخطوة أولوية إدارة ترامب في اتباع سیاسة "أمریكا أولًا"، مفضلة المصالح الأمنية والاقتصادية على حساب التحالفات التقليدية، بخاصة في سياق المفاوضات السربة مع إيران حول الملف النووي.
 

هدنة هشة في مرمى الإقليم

 
وتبقى الهدنة الأمريكية -الحوثية هشّة، ليس فقط أمام احتمالات التصعيد الإسرائيلي، بل أيضًا على وقع التفاهمات الأمريكية -الإيرانية التي تشكّل الضامن الحقيقي لديمومتها. فبقدر ما تحرز هذه التفاهمات تقدمًا، يزداد احتمال استقرار الهدنة؛ وبقدر ما تتعثر، يعود شبح التصعيد، سواء بأدوات إيران عبر الحوثيين، أو بأدوات إسرائيل في ساحات الرد. بین هذين القطبين، يقف البمن مجددًا كأرض اختبار لتوازنات إقليمية لا تُبنى فيها الدولة، بل تُستثمر فيها الجغرافيا.
 

خارطة الانقسام: سلطة بلا مركز

 
على الأرض، يزداد الانقسام السياسي والاجتماعي في اليمن تعقيدًا، وسط غياب مشروع وطني أو إقليمي أو دولي جاد لإخراج البلاد من أزمتها المركبة. تتوزع مناطق النفوذ بين الحوثيين في الشمال، والمجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، وحزب الإصلاح في مأرب وتعز، بينما تُعدّ قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق محمد عبده صالح، لاعبًا مؤثرًا في الساحل الغربي، لا سيما في مدينة المخا ومحيطها، بدعم مباشر من دولة الإمارات.
ورغم انضواء هذه القوى تحت مظلة مجلس القيادة الرئاسي، إلا أن الواقع يكشف عن حالة من التنازع والاستقلالية الفعلية، تعوق بناء جبهة موحدة في مواجھة الحوثيين أو في أي مسار مستقبلي لإعادة بناء الدولة. ويتجلى هذا التداخل بوضوح في عضوية المجلس ذاته، إذ يحتفظ عيدروس الزبيدي بموقع مزدوج كعضو في المجلس، ورئيس للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لا يخفي سعيه إلى استعادة دولة الجنوب السابقة. وفي المقابل، يتبنى طارق صالح موقفًا مرنًا تجاه بقية الأطراف، بينما تحتفظ قواته بحضور عسكري مستقل في الساحل الغربي، في سیاق لا يخلو من إشارات إلى رغبة ضمنية في إعادة إنتاج نفوذ عائلته السياسي، ما يعكس التناقض البنيوي داخل "الشرعية" بين مشروع وحدة هشّة وطموحات متعارضة، ويُضعف فاعليتها السياسية والعسكرية.
 

حضرموت خارج الثنائية: صوت يتبلور

 
ولتزداد خارطة التشظي تعقيدًا، ببرز الموقف الخاص لمحافظة حضرموت، التي تنأى بنفسها نسبيًا عن الصراعات الحادة في الشمال والجنوب. ورغم انقسامها الإداري بين ساحل يخضع لنفوذ القوات المدعومة من الإمارات، ووادٍ وصحراء تحت نفوذ قوات محسوبة على حزب الإصلاح، فإن الخطاب الحضرمي بدأ يعبر بشكل متزايد عن تطلعات نحو كيان سياسي مستقل، سواء في إطار فيدرالي واسع أو حتى خارج ثنائية الشمال والجنوب. ھذا الموقف يعكس تململًا من ھيمنة الأطراف المتصارعة، وسعيًا إلى إعادة تعريف الدور الحضرمي ضمن أية تسوية سياسية مستقبلية، وهو ما يضيف بعُدًا جدیدًا لتعقيد مشهد ما بعد الحرب.
 

أزمة السياسة من الداخل: أحزاب بلا تمثيل ولا مشروع

 
لا يقتصر انسداد الأفق في اليمن على الحرب والانقسام الجغرافي، بل يمتد عميقًا إلى البنية السياسية ذاتها، إذ تبدو الأحزاب التقليدية -التي شكّلت لسنوات واجهة العمل السياسي- في حالة موت سريري. فقد انضوت معظم هذه الأحزاب، وعلى رأسها حزب الإصلاح، وحزب المؤتمر الشعبي العام، والحزب الاشتراكي اليمني، في إطار "الشرعية" دون أن تحتفظ بأية صلة حقيقية بقواعدها الشعبية أو بتقاليد العمل المؤسسي. فالقيادات الحزبية تقيم خارج البلاد، ولم تعقد مؤتمرات تنظيمية حقيقية منذ عقود، ما حوّل هذه الأحزاب إلى كيانات رمزية تمارس أدوارًا شكلية، من دون تفويض اجتماعي أو مشروعية سياسية فاعلة.
ھذا الفراغ يضاعف من عمق الأزمة، إذ لا توجد اليوم قوة مدنية جديدة تمتلك القدرة على التعبير عن هموم المواطنين أو بلورة مشروع سياسي جامع. وفي ظل ھذا الغياب، تُرك المجال خاليًا لقوى الأمر الواقع المسلحة، أو لمشاريع مناطقية وجهوية تتغذى على خطاب المظلومية، وتفتقر لرؤية وطنية شاملة.
إن غياب الحياة الحزبية الحقيقية، وتآكل ثقة المواطن اليمني بالنخب التقليدية، يطرحان تساؤلات عميقة حول مستقبل التمثيل السياسي في البلاد. فاليمن، الذي كان یومًا موطنًا لتجارب ديمقراطية ناشئة، يواجه اليوم فراغًا مزدوجًا: غياب الدولة وغياب القوى القادرة على إعادة إنتاجها.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً