بينما تتساقط القنابل على مأرب وتعز، وتختنق المدن الخاضعة للشرعية بانهيار الخدمات وتدهور العملة، تبدو صنعاء كمركز ماليّ محصّن خلف ستار الحرب. فجأة، تعلن الصين استعدادها لدعم إعادة تأهيل مطار صنعاء وميناء الحديدة، ويُرحَّب بهذه الخطوة من قبل جماعة الحوثي كما لو أنها إنجاز سيادي.
لكن ما الذي يدفع بكين إلى تقديم دعم في توقيت حساس، بينما تتصاعد اتهامات بتهريب الأسلحة والنفط الإيراني عبر موانئ خاضعة للحوثيين؟
الأكثر إثارة للريبة أن رأس عيسى الميناء الذي طالما اُتهم بكونه شريانًا لاقتصاد الظل والتهريب لا يزال يستقبل سفنًا دون شفافية تامة، تحت غطاء "المساعدات" أو "الواردات التجارية
فهل نحن أمام مشروع إنساني لإعادة الإعمار للجماعة فقط أم أمام واجهة جديدة لإدامة اقتصاد الحرب، بمباركة دولية وتغاضٍ إقليمي بالرغم من القصف المتكرر من قبل الاحتلال الإسرائيلي
هكذا تفتح هذه التطورات باب الأسئلة على مصراعيه: من يموّل من؟ ومن يُرمم الموانئ والمطارات لخدمة من؟ وهل تتحوّل البنى التحتية التي يُفترض أن تخدم اليمنيين إلى أدوات لتعزيز اقتصاد جماعة تُصنَّف على قوائم الإرهاب؟
منذ لحظة سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء عام 2014، لم يكن المشروع محصورًا في الأبعاد السياسية والعسكرية فقط، بل تشكّل تدريجيًا ما يمكن وصفه بالاقتصاد الموازي الذي تغذيه الجماعة من خلال شبكات مالية وتجارية وإقليمية تتجاوز حدود اليمن، وتخترق النظم القانونية والمصرفية لدول الجوار وبعض العواصم الغربية.
هذا الاقتصاد، الذي بات يمثل العمود الفقري لاستمرار الجماعة، تشكّل عبر تأسيس مئات الشركات الوهمية أو ذات الواجهة المدنية، تُدار بواسطة رجال أعمال والذين يطلقون عليهم رجال الاعمال الجدد، وتغطي طيفًا واسعًا من القطاعات، من تجارة الوقود والاتصالات إلى التحويلات المالية. وقد أتاحت سيطرة الجماعة على البنك المركزي في صنعاء، وتوجيهه نحو أجندتها، بناء بنية مالية تتيح لها التحايل على العقوبات، وتحويل العملة إلى أداة قمع وابتزاز اقتصادي.
في الموازاة، تمكنت الجماعة من اختراق المنظومة الإقليمية والدولية عبر آليات متطورة، تشمل التهريب، والاستيراد غير المباشر، وغسل الأموال، واستخدام العملات المشفرة. وقد كشفت العقوبات الأميركية الأخيرة عن سلسلة من الأفراد والشركات المرتبطين بالجماعة، يعملون في تجارة النفط الإيراني، ويتنقلون بأموالهم عبر أنظمة مالية في تركيا ولبنان ودول أخرى، لتصل في نهاية المطاف إلى صنعاء، حيث يعاد تدويرها في تمويل الأنشطة العسكرية.
ينتشر هذا النمط من التخادم الاقتصادي في بعض دول الجوار، التي تغض الطرف لأسباب أمنية أو سياسية عن عمليات مشبوهة تدور ضمن أطر قانونية سطحية. وقد شكّل التراخي من قبل سلطات العربية والافريقية والإمارات عاملًا مساعدًا في تمدد هذا الاقتصاد الحوثي، سواء عبر شركات تتخذ من تلك الدول مركزًا لعملياتها، أو عبر شبكات تهريب تمر تحت أنظار أجهزة لا تبادر بالتحقيق أو المحاسبة.
يتعدى الأمر حدود المنطقة العربية. فقد تبنت بريطانيا مقاربة أقل حدة تجاه الشبكات المالية المرتبطة بالجماعة، إذ لم تُظهر أجهزة الرقابة المالية هناك حزمًا كافيًا تجاه الكيانات التي تعمل من الأراضي البريطانية أو عبر شركات "أوفشور" تسهم في نقل الأموال بطرق يصعب تتبعها. ويُعتقد أن هذه المقاربة الضبابية ساعدت في استمرار تمويل اقتصاد الحرب الحوثي مقابل نهب ثروات البلاد، رغم الإدانات الرسمية لتصعيد الجماعة في البحر الأحمر.
أما فرنسا بحسب تقارير ، فقد تورطت بشكل غير مباشر في أحد المسارات الاقتصادية الأشد خطورة، وهو نهب التراث اليمني. فقد ثبت تهريب عشرات القطع الأثرية من اليمن إلى الأسواق الأوروبية، وبيعت في مزادات علنية في باريس. ورغم المناشدات الرسمية، لم تتخذ السلطات الفرنسية إجراءات صارمة، ما يثير الشكوك حول وجود رغبة في الاستفادة من هذه السوق السوداء، التي أصبحت مصدرًا غير تقليدي لتمويل الحرب.
على الجانب الآخر، تحوّلت العملات الرقمية إلى قناة إضافية للتمويل، حيث استخدمت الجماعة محافظ إلكترونية لتجاوز القيود المصرفية. وتشير التقديرات إلى أن الحوثيين تلقوا مئات الملايين من الدولارات عبر هذه القنوات خلال السنوات الأخيرة، استخدمت في تمويل الطائرات المسيّرة وشراء المعدات العسكرية.
وفي سياق أكثر تعقيدًا، لا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه الصين وروسيا، وإن كان غير مباشر. فبالتوازي مع الدعم السياسي في مجلس الأمن، تغض موسكو الطرف عن نشاطات مصرفية وتجارية تتقاطع مع شبكات إيرانية تدعم الحوثيين، مستفيدة من ضعف الرقابة الغربية على التعاملات العابرة للعقوبات. أما الصين، فبينما تلتزم خطابًا حياديًا ظاهريًا، تواصل شركات شحن صينية التعامل مع وسطاء في المنطقة يعملون في تهريب النفط أو المعدات المزدوجة الاستخدام، وسط فراغ قانوني يعكس سياسة "اليد الخفيفة" الصينية في مناطق النزاع، ما يجعل من بكين لاعبًا غير مرئي في تأمين قنوات التمويل غير النظامية.
في مقابل هذا التمدد، تغيب الحكومة الشرعية اليمنية عن المشهد المالي بشكل مقلق. فبين الفساد المستشري والعلاقات الرمادية التي تربط بعض التجار النافذين بشراء الولاءات داخل مناطق الحوثي، يبدو أن الشرعية لم تبادر بأي جهد نوعي أو متكامل لاستعادة السيطرة حتى على دورة المال الوطنية، أو لشن حملة دبلوماسية لوقف هذا النزيف الاقتصادي. بل إن بعض قنوات التمويل تمر من مناطق تقع تحت سيطرة الحكومة نفسها منذ السنوات الماضية ، مما يطرح علامات استفهام حول التواطؤ أو اللامبالاة.
في السياق الجيوسياسي، جاءت التصعيدات الأخيرة في البحر الأحمر كترجمة عسكرية لهذا النفوذ المالي، حيث سعت الجماعة لإعادة تشكيل معادلة التفاوض مع واشنطن من خلال تعطيل الملاحة. هذه الاستراتيجية، وإن تمت تحت يافطة دعم غزة، إلا أنها في جوهرها محاولة لتثبيت الاعتراف الدولي بالجماعة كلاعب سياسي وعسكري واقتصادي. وقد جرت مفاوضات غير مباشرة بين الحوثيين والولايات المتحدة في مسقط مؤخرًا، رغم التصعيد البحري، ما يشير إلى تناقض في سلوك العواصم الغربية تجاه الجماعة
كما لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن إيران، رغم كونها الحاضن الرئيسي، لكنها ليست الوحيدة. ثمة إشارات إلى أن بعض الشبكات التجارية التي تدور في فلك جماعة الحوثي ترتبط أيضًا بوسطاء لديهم مصالح اقتصادية غير معلنة مع لاعبين تصل علاقتهم مع إسرائيليين، في ما يشبه لعبة مزدوجة داخل السوق السوداء للمناطق الرمادية في الإقليم تدمر المواطن اليمني أينما ذهب.
في المحصلة، ما يجري ليس مجرد تمويل حرب تقليدي، بل بناء لاقتصاد ظل إقليمي ودولي يطيل أمد الصراع، ويفسد فرص الاستقرار، ويضع ملايين اليمنيين رهائن للعبة أكبر من حدودهم. إنها معركة للسيطرة على المال، تحت قناع السياسة، وبحماية التغاضي الغربي، والتواطؤ الإقليمي، والعجز الرسمي، في وقت تتآكل فيه الدولة، وتُنهب ثرواتها، ويُهرّب تراثها، وتُستثمر دماؤها في موازنات دول وشركات تعتبر الحروب سلعة… واليمن حقل اختبار بلا كلفة سياسية.