بالتجاوز يمكن وصف الوضع العربي الراهن بـ"النظام العربي"، لأن واقع الحال أننا أمام نظام عربي متعدد الأصوات، ومتباين السياسات، يفتقد التلاحم ووحدة الموقف، لأن ما يربط مكوناته اليوم هو أقل بكثير مما كان يربطه بالأمس، وحتى في فترة الحرب الباردة العربية التي انقسم فيها النظام العربي إلى كتلتين متصارعتين ومتنافستين، وكان لكل منهما حلفاء خارج الجغرافيا العربية، كانتا حريصتين على عدم التفريط بالقضية المركزية العربية، فلسطين، مع الحرص أيضًا على الحفاظ على الحد المعقول من الاستقلال والكرامة، والحرص على وجود مسافة مع سياسات الدول الداعمة لدولةالاحتلال.
بالأمس أيضًا كان للعروبة وللوحدة العربية وللقمم العربية رنين آخر وقيمة سامية، وكانت الجماهير العربية تعول الكثير على القمم العربية، وتتابعها بشغف، وتتطلع بشوق إلى قراراتها، وتفتقد عدم انعقادها.
اليوم زادت الشقة بين الجماهير العربية وبين قياداتها، مما أدى إلى ما يقترب من اليأس في أن يكون الحاضر أفضل من الماضي أو شبيهًا به على الأقل.
عندما طرحت اليمن قبل ربع قرن مبادرتها في الجامعة العربية لآلية انتظام انعقاد القمم العربية، وأضيف إلى المبادرة أن يكون التمثيل في القمم العربية على مستوى قادة الدول الأعضاء، عد ذلك إنجازًا تلاه بعد سنين قليلة إنجاز آخر عن انعقاد قمم اقتصادية تنموية عربية تتكامل مع القمم السياسية للتصدي لعواصف لم تعفِ النظام العربي من الاستهداف لإضعافه وتهميش دوره وتوسيع الفجوة بينه وبين اقتصاديات الدول المتقدمة اقتصاديًا لصالح الأخيرة.
اليوم لم يعد كثيرون يعولون على القمم العربية، ويرونها هي وعدمها سواء. الموقف العربي الواحد السابق من القضايا العربية أضحى مواقف تراعي رد فعل الحليف الأجنبي أكثر من صاحب القضية.
جريدة "هاآرتس" الإسرائيلية نشرت مقالًا وصفت فيه كفاح الفلسطينيين في غزة من أجل الحرية بالمقاومة، وعندنا تخلو كلمة المقاومة حتى اللحظة من بيانات رسمية وتصريحات وكتابات صحفية عربية عديدة، مع عدم الممانعة لتبييض الوجه من استمرار السرد الإنشائي حول التزام نظري تكذبه السياسات الفعلية بدعم القضية التي لم تعد فعلًا قضية العرب الأولى.
في شهر مايو الحالي ستشهد بغداد قمتين، سياسية واقتصادية في ذات الوقت. هاتان القمتان تنعقدان في ظل تحديات وجودية يواجهها "النظام العربي"، وبخاصة قضيته الأولى، سابقًا، فلسطين، وبعض وحداته المهددة كياناتها بالتشظي، كاليمن وسوريا ولبنان. وإذا كان المعول أولًا على أبناء هذه البلدان، أن يتفادوا الأسوأ، فإن الجماهير العربية لم تفقد الأمل بأن تعمل أنظمتها بالقمم أو بدونها على الحفاظ على الوحدة الترابية لكل دولة عضو في الجامعة العربية، لئلا يصيبها في قادم الأيام ما لا تشكو منه اليوم.
لقد تأقلم النظام العربي قبل الغزو العراقي للكويت الذي كسر ظهره، وأصاب وحدته في الصميم، بكل أوجه ضعفه المعروفة مع نظام العولمة المعبر عن هيمنة الكيانات الأقوى اقتصاديًا، التي قادت النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بما يحقق مصالحها على حساب مصالح الدول الأقل حظًا في التنمية والمستقلة بدرجة أو بأخرى، ولكن الفاشلة وظيفيًا في كسر حلقتي التخلف والتبعية والقدرة على التمرد على السوق الرأسمالية والاستعمار الاقتصادي الجديد وكساء الاستقلال بمضمون تنموي تراكمي.
النظام العربي اليوم أقل مرونة، بل أقل قدرة رغم الغنى المادي لبعض مكوناته، في مقاومة عواصف يأتي أغلبها من حليف يسمى على أكثر من لسان ينطق بالضاد بالشريك الاستراتيجي. هذه التسمية تقصفها مواقف هذا الشريك الاستراتيجي من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وفي الضفة الغربية المحتلتين اللتين تمارس فيهما إسرائيل المحمية والمسنودة منه قلبًا وقالبًا، سياسة إبادة ممنهجة وتطهير عرقي متعمد، وبسلاحه هو، مع تجويع وتطهير عرقي لا يستنكرهما، ولا يعارض حتى منع إسرائيل المتغطرسة لانسياب العون الدولي المكدس على حدود مصر إلى غزة المنكوبة، والوصول إلى محتاجيه الذين يعانون من مجاعة حقيقية عاشها أطفال اليمن قبل عام ٢٠١٨.
غزة لاتزال تقاوم بعد سنة وسبعة أشهر من العدوان الإسرائيلي المدعوم من قبل الولايات المتحدة تسليحًا وموقفًا في محكمة العدل الدولية التي تناقش حاليًا انتهاك إسرائيل لالتزاماتها كدولة احتلال وقعتها غير مكرهة، وهي تنوي خرقها عندما تتيح لها الظروف تنفيذ بقية استراتيجيتها التوسعية للتطهير العرقي، والتي توقف العرب عن مطالبتها بتنفيذها وباحترام توقيعها عليها أو انسحابها منها، لتكشف عن وجهها القبيح المعادي للقانون الدولي الإنساني وللنظام الدولي ككل.
وهنا، أعيد التذكير بما كتبه كثيرون من قبل بأن لا مصلحة لأي عربي، دولًا وأحزابًا ونقابات ومساجد وكنائس وأفرادًا، في إضعاف المقاومة العربية، سواء كانت فلسطينية أو لبنانية أو يمنية، لأن البديل لها هو الهيمنة الصهيونية، وتحقيق حلم نتنياهو بالنصر على الحقوق الفلسطينية والسورية، الجولان، واللبنانية، مزارع شبعا، وتشكيل وجه جديد للمنطقة على مقاس المصالح والطموح التوسعية الإسرائيلية وحدها.