قبل البدء:
"الويل لكم من الله، ومن الناس إن وجدوا الفرصة لأخذ حقوقهم من دمائكم ومن كرامة أولادكم ونسائكم، كما أهدرتم كراماتهم ونهبتم حقوقهم".
المستشار أحمد علي جحاف، بتاريخ 19/3/2025م.
إن تغييب الدولة، ومصادرة الراتب، وقمع الحريات، هي ثلاثية ملازمة لـ"الهادوية السياسية المعاصرة"، كنظام سياسي في صور وأشكال مختلفة. فلم تترك الإمامة، كحكم ونظام سياسي، أي تراث مادي أو فني أو عمراني له معنى.

كما "لم تشهد اليمن استقرارًا خلال التاريخ الطويل للإمامة، التي انحصرت مهامها -كما يُستقى ذلك من كتب مؤرخي الإمامة الزيدية أنفسهم- في إقامة الحدود الشرعية وقبض الواجبات. وباستثناء بناء المساجد، فإن مهام الإنشاء والتعمير لم تكن واردة ضمن مهام الدولة الزيدية"(١).
وحول المعنى ذاته، يشير د. أبو بكر السقاف، والعديد من المصادر التاريخية، في كتابه "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة"(٢).
وفي تقديري، فإن الجماعة السياسية الحوثية المعاصرة ليست سوى تنويع بسيط لذلك الأصل الأيديولوجي والسياسي الاستبدادي التاريخي، في شروط عصر مغاير، في موقفها من قضية التعليم والعمران وبناء الدولة.
إن فكرة وقضية الدولة ليست حاضرة في عقل وتفكير الجماعة الحوثية "أنصار الله"، ذلك أن معنى الدولة لديهم، كأسلافهم، مختصر فيهم (الإمامة/ الإمام)، كما كان في كل تاريخ "الهاشمية السياسية".
الدولة نافلة زائدة عن الحاجة في وجود الإمام، فالإمام، تحت أية تسمية جاء، لا يحتاج للدولة إلا كزينة خارجية، يكرّس بها معنى وجوده المقدس، كذات إمامية، متوجة بنص ديني/ إلهي، خفي أو معلن. فقط "المشرفون"، كما هو الحال معنا اليوم، هم من يمثلون ويجسدون ويعبرون عنها -الإمامة- في واقع الممارسة، في صورة الإمام/ السيد، "علم الهدى"، "الولي الفقيه"، في الاثني عشرية، حسب التخريجة الأيديولوجية/ الفقهية الإيرانية/ الخمينية.
ومن هنا، فالإمام/ الأئمة، عابرون للدولة/ الدول -وفوقها- وبالنتيجة، لا حاجة لموظفي الدولة إلا كمالة عدد، وليس كما هو حاصل وقائم في كل دول العالم الحديثة، بل حتى القديمة، التقليدية/ السلطانية.
ولذلك، كان وجود الجهاز الوظيفي، ومنهم موظفو الدولة، موجودين في صورة وهيئة أعداد محدودة جدًا، وعند أضيق نطاق من الأسماء، وكأفراد ذوي وظائف محددة، وليس بنية هيكلية وظيفية، وفي حالة مستدامة لدولة كاملة الأركان، ومستمرة في الوجود/ الحياة، كبنية هيكلية إدارية وظيفية لدولة.

ولذلك، ما إن وصلت الجماعة الحوثية "أنصار الله"، في 21 سبتمبر 2014م، إلى السلطة، بالانقلاب على المفهوم الجمهوري والوطني، حتى كانت الخطوات الأولى لعملهم هي تصفية مؤسسات الدولة من قياداتها وكوادرها العليا والوسطى، بل حتى الدنيا.
ومن هنا، بدأت إجراءات تصفية جهاز الدولة ومؤسسات النظام الجمهوري من موظفي الدولة، وتهميش دور الدولة حتى إلغاء معنى وجودها في واقع الممارسة، واستبدال قيادات الدولة في البداية بـ"اللجنة الثورية..."، وبعدها "المشرفين"، الذين كانوا فعليًا فوق الوزير، ورئيس المؤسسة أو المصلحة، حيث المشرف هو من يحتفظ بختم الوزارة لديه، وهي الإجراءات التي كانت متبعة في بداية انقلابهم، عبر "المجاهدين أولاد المجاهدين"، حسب تعبير الأستاذ أحمد محمد نعمان في رسالة منه إلى الحاج عبدالله عثمان.
الدولة، باختصار، في نظر هذه الجماعة، ومن لحظة وصولهم إلى السلطة، مختزلة فقط في "الجبايات" والزكوات، أي واجبات والتزامات مالية من "الرعية"، دون حقوق.. فقط، واجبات يجب أن تُحصَّل ممن تمت مصادرة رواتبهم منذ عشر سنوات.. واجبات/ جبايات لا تتوقف من موظفين بدون رواتب، ويعيشون تحت حد الكفاف، في حالة بين الحياة والموت.
جبايات وصلت حدَّ اللامعقول، في أخذ جبايات حتى "على الصرف الصحي"، عزكم الله، الذي دفع المواطنون قيمة إنجازه مرتين، قبل أكثر من عشرين سنة، الأولى من أموالهم الخاصة، والثانية من كونه مدفوع القيمة من جهة تمويل خارجية، وقيمة الصرف الصحي تتساوى -أحيانًا- مع استخدام الماء، وهي سابقة ليست فقط في تاريخ اليمن، بل في تاريخ العالم! ومثلها العديد من أشكال الجبايات التي تطال التجار ورجال المال والأعمال، حتى أصحاب "البسطات"، والباعة المتجولين، وقد أشار -قديمًا، في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي- إلى ذلك المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، في كتابه "بهجة الزمن في تاريخ اليمن"، إذ وصف فيه، كيف كانت الإمامة في فترته تأخذ الضريبة على مثل هذه الحالات، "البسطات"(٣)، وهم من يدخلون، بالمفهوم والمصطلح الاقتصادي المعاصر، ضمن مفهوم "البطالة المقنّعة"!
في عام 2018م، أعلنت الجماعة الحوثية إنشاء "الهيئة العامة للزكاة"، كجهة رسمية لجمع وتوزيع الزكاة، وفي عام 2020م، أصدرت الجماعة جملة من التعديلات على "قانون الزكاة"، والهدف فرض جباية "الخُمس/ ٢٠٪" لصالح أهل البيت/ "البطنين"، أصحاب الحق بـ"الولاية"، دونًا عن جميع أبناء الشعب اليمني الفقراء والمعدمين، في واقع تم فيه مصادرة الراتب لقرابة عشر سنوات، مع تصاعد جنوني في إيجارات المساكن، وارتفاع الأسعار، وارتفاع خرافي لسعر الدولار، وانخفاض لقيمة الريال اليمني، الذي لم يعد بيد الناس منه شيء، ليس من أجل العيش بكرامة، بل من أجل استمرار بقائهم أحياء على قيد الحياة.
مع أن الجماعة الحوثية، وقياداتها العليا، وكوادرها (المشرفين وغيرهم)، والجهات الإدارية والسياسية الملحقة بهم، بمن فيهم بعض مؤسسات الدولة الإيرادية، وحتى المؤسسات غير الإيرادية، مثل: "المجلس السياسي الأعلى"، و"مجلس النواب"، و"مجلس الشورى"، و"القيادات العسكرية والأمنية"، و"المجاهدين"، ضد العدوان الداخلي والخارجي، لرفع راية "علم الهدى"، لم تنقطع عنهم الرواتب، بل حظوا بجميع الامتيازات الممنوحة لهم، والتي لم تكن حتى معتمدة الصرف في الزمن السياسي الفاسد السابق لوجودهم.
هي امتيازات سياسية ومالية سلطوية، حظيت بها نخبة وصفوة "الهاشمية السياسية المعاصرة"، وليس مجموع "المكون الهاشمي الاجتماعي الوطني الكريم"، الذي كان، وبقي، وضعه السياسي والاجتماعي والطبقي، شأنه شأن غيره من أفراد ومكونات المجتمع المختلفة.
فهم يعملون -فئة السادة- في النجارة، والتجارة، ومختلف الأعمال، بما فيها الحرف اليدوية (زيدية عدنانية وزيدية قحطانية)، وبينهم الأكثر فقرًا، مثل غيرهم من سكان البلاد.
حينها، لا يغدو التمييز الاجتماعي والطبقي، باسم (النسب/ السلالة)، ذا معنى سياسي طبقي في واقع الممارسة. ومن هنا، وجب التمييز والتوضيح بين "الهاشمية السياسية"، كطبقة سياسية مميزة ومتميزة، وبين "المكون الاجتماعي الهاشمي الكريم"، الذي لا مصلحة له/ لهم في كل هذا العنف السياسي والصراعي الجاري، إذ تصبح معها كلمة "سيدي" بلا معنى، أو فارغة من أية دلالة سياسية سلطوية في واقع الممارسة السياسية الطبقية، ولا تضيف لـ"السيد الاجتماعي" سوى بُعد معنوي/ اجتماعي، ممنوع من الصرف السياسي.
فماذا أضافت صفة وكلمة "السيد" للسيد في المناطق الشافعية شمالًا وجنوبًا سوى بُعد اجتماعي معنوي، يحصل عليه من دوره الديني والتعليمي والتربوي لأبناء المجتمع، ولا قيمة سياسية/ طبقية، سلطوية، للنسب السلالي الهاشمي الشافعي، وأرفع ما يصل إليه هو لقب "الحبيب" و"المنصوب" و"المعلم".
كما أن "الانتماء إلى المذهب الزيدي، لم يكن يعني دائمًا الولاء للإمام الزيدي"(٤).
ومن هنا، قولنا إن الجماعة الحوثية القائمة لا همَّ لهم سوى احتكار السلطة والثروة في جماعتهم الخاصة، وتغييب الدولة، ومصادرة الراتب، وقمع الحريات.
مشكلتهم الحقيقية هي مع بناء الدولة، وبالنتيجة مع مؤسسات الدولة المطلوب إلغاء معنى وجودها في واقع الممارسة، ومن هنا موقفهم العدائي من موظفي الدولة بجميع مستوياتهم، ويكون القهر والعداء أكبر، بل أعظم، ضد المؤسسات التعليمية والبحثية، لأن التعليم هو عدوهم التاريخي، وتوسع قاعدته الاجتماعية يعني اتساع قاعدة المعارضة لحكمهم. وهناك قاعدة أيديولوجية إمامية متوكلية حميدية، ملخصها يقول: "الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب العارف"، ولذلك فإن الإمامة المتوكلية الحميدية لم تهتم طيلة حكمها "الاستقلالي" الزائف بالتعليم، وحتى ما تركه الأتراك بعد خروجهم من اليمن من مؤسسات إدارية ومن مدارس، تم إلغاؤها، أو حسب تعبير د. أحمد الصائدي "اختفت" بعد ما يسمى "الاستقلال"(٥).
فالتعليم عدوهم الرئيس الذي يجب حجبه عن الناس، وحصار انتشاره في أضيق نطاق، والتمهيد لإضعاف معنى وجوده في حياة الناس/ المجتمع.

ومن هنا، الموقف من التعليم ومن المعلم، ومن مراكز البحث العلمي، التي توجه ضدها الجماعة سوطها، كشكل من أشكال العقاب المادي والسياسي. وكانت أول خطوة عقابية في أيامنا الكالحة هي إلحاق مراكز الأبحاث العلمية الأكاديمية العليا بوزارة التربية والتعليم، وفصلها عن الجامعات وعن المعنى الأكاديمي البحثي، وإلحاقها بوزارة لم تقم بواجبها تجاه دورها التعليمي في المدارس، طيلة عشر سنوات، وتعمدت قهر واستلاب وإهانة إرادة المعلمين في مدارس التعليم الأساسي، الذين يتعرضون لأبشع أنواع القمع والإذلال، والإرهاب المادي (مصادرة الراتب لعشر سنوات)، والقهر المعنوي، وتحولهم -أغلبهم- إلى فقراء حد الكفاف، وإلى باعة قات، وباعة متجولين، بل حتى شحاذين في الطرقات، بعد أن تسرب من التعليم الأساسي أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من طلبة التعليم الأساسي لأسباب مختلفة.
وبعد أن تحولت الكثير من المدارس في البداية إلى ما يشبه المعسكرات والملاجئ، ومبانٍ مدمرة بفعل الحرب والإهمال، أصبح المعلمون فيها بدون مرتبات لسنوات، ومطلوب منهم إجباريًا التدريس "سخرة"، تحت ضغط هذه الظروف القهرية، أو فقدان درجاتهم الوظيفية! حتى ما يأتي من مساعدات مالية محدودة جدًا من جهات تمويل خارجية يتم التحايل عليها، ولا يصل للمعلمين المعدمين إلا نصفها في أحسن الأحوال. وفي ظل هذه الأوضاع المتردية التي تعيشها وزارة التربية والتعليم والمعلمون، يتم إلحاق مراكز الأبحاث بها، تمهيدًا لإلغاء دورها التدريجي كمراكز أبحاث، كما هو الحال في كل العالم، حتى المتخلف منه، حيث تعد مراكز الأبحاث قوة ناعمة إضافية تساعد صانع القرار، ليس فقط في اتخاذ القرار السليم، بل في رسم السياسات الصحيحة، وذلك في الدول الديمقراطية الحديثة، وفي الدول التي تحترم نفسها وشعبها!
أما في بلادنا، وتحديدًا مع سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فقد كان الاستهداف الأول هو استهداف أهم مركزين بحثيين في اليمن:
الأول: "مركز الدراسات والبحوث اليمني"، وهو أول مركز بحث علمي في الجزيرة والخليج، عمره أكثر من نصف قرن، وله دور بحثي وعلمي وتنويري كبير، فضلًا عن دوره التوثيقي لتاريخ اليمن الفكري والسياسي والثقافي والوطني المعاصر.
الثاني: "مركز البحوث والتطوير التربوي"، وهو من أهم مراكز البحث العلمي التعليمي والتربوي، وله دور بارز ومشهود له في تاريخ تطوير البحث العلمي التربوي في البلاد، وله إسهامات طيبة في مجال اختصاصه.
وما يدل على الاستهداف الأيديولوجي/ السياسي للمركزين، هو وضعهما في الفئة (ج)، ضمن لعبتهم العقابية السمجة الأخيرة حول صرف الراتب، بالقول إنهما مؤسستان إيراديتان، "إنتاجيتان/ ماليتان"، ولديهما موارد "إيرادات"، ليتم من خلال ذلك:
أولًا: التمهيد لإلغاء دور ومكانة المركزين في مجالي اختصاصهما، وتصفية معنى وجودهما في واقع الممارسة، وإضعاف وتهميش دور ومعنى البحث العلمي.
ثانيًا: إذلال وإهانة العقول البحثية، ووضعهم تحت أقسى ضغط وأبشع وضع مادي/ معيشي.
وكما هو واضح، هي سياسة ممنهجة ومنظمة ومدروسة بعناية فائقة في فكر وعقل "الهاشمية السياسية المعاصرة"، وقد أُوكِلت هذه المهمة البشعة للأخ وزير المالية، الذي يصر على وضع المركزين -وغيرهما- ضمن الفئة (ج)، كونهم ممن لا يستحقون صرف نصف راتب شهري لهم، وبقاء أحوالهم المالية من جهة صرف رواتبهم كما كان الحال عليه طيلة العشر السنوات الماضية: نصف راتب في عيد الأضحى، ونصف راتب في بداية شهر رمضان، ونصف راتب في منتصفه، والنصف الرابع في المولد النبوي -أحيانًا- أو كما يحددها مزاج الجهات الوزارية المعنية، بعد أن صار وزير المالية هو "الحاكم بأمره"، الآمر الناهي في حياة الناس المعيشية في ظل سلطة الجماعة الحوثية.
وكما كتب مرة أحدهم: "إن تدمير بلد لا يتطلب استعمال القنابل الذرية والصواريخ بعيدة المدى، يكفي تخفيض نوعية التربية والتعليم"، وهو ما يحصل في كل بلادنا، شمالًا وجنوبًا -بدرجات مختلفة ولأسباب مختلفة- بعد أن فقدنا وجود الدولة، وسيطرت المليشيات، وتم تغييب الدستور، وتراجعت قيمة ومعنى القوانين النافذة، والنظام، وبالنتيجة توقفت طباعة الكتاب والمجلة، حتى المجلات الأكاديمية الجامعية، ولم نعد نسمع عن معارض الكتاب الدورية، في كل البلاد!
نلتقي في الحلقة الثانية.
الهوامش:
1- د. أحمد قايد الصائدي: حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام يحيى بن محمد حميد الدين (1322-1367هـ/1904-1948م)، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط1، 1983م، ص27.
٢- د. أبو بكر السقاف: الجمهورية بين السلطنة والقبيلة، ط(٢)، ص١٥.
٣- أمة الغفور الأمير: الأوضاع السياسية في اليمن أواخر القرن السابع عشر الميلادي مع تحقيق مخطوطة بهجة الزمن في تاريخ اليمن للمؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، المجلد2، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، صنعاء، ط1، 2008م، ص629، 650، وانظر رياض الصفواني: موقف العلماء اليمنيين من سياسة أئمة الدولة القاسمية، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط1، 2015، ص137-138.
٤- د. أحمد الصائدي، نفس المصدر، ص١٤٢.
٥- د. أحمد الصائدي، نفس المصدر، ص42.