كثيرًا ما نموت خلال اللحظة ليس موتًا سريريًا، لكن موتًا معنويًا حين تتقاذفنا موجات الاتهامات جزافًا مزاجًا رجمًا بالموت، لنخرج من جنة نعيم الآخر حين يسمح لنفسه بإطلاق عيارات القتل المعنوية تأكيدًا للعبارة القاتلة: الآخر هو الجحيم... يجب استئصاله.. قتله... هي مأساة تبتز مصائر الناس بجرة قلم، تعصف بهم من نفر يرون في ذاتهم ملاك الحقيقة المطلقة، متجاهلين أن لا حقيقة مطلقة على الأرض، ففيها كل الأمور نسبية، إذ المطلق سماوي مالك شأنه، أما على الأرض فالتعامل وفق ثوابت قابلة للتحول والتبدل بتوافقات جمعية، وليس رجمًا بالغيب، ولا فرضًا بالقوة، ولا تجاوزًا لقيم ومبادئ صاغها الكل المجتمعي... خلاف ذلك فسيف بتار يلوي عنق الحقيقة التي تنتجها وقائع وتفاهمات من يعيشون على الأرض دونما تعالٍ، والادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة بتفويض سماوي أو بقهر السيف البتار أو الرمي بتهم الكذب والتلفيق وإمعانًا من طرف أو أطراف أيًا تكن تدعي بأنها صاحبة الحقيقة والتاريخ وحقائق المستقبل.
لا شيء يبني الأوطان خارج التوافق والاتفاق، ولا قيد على الرأي الآخر متى تجاوز الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، فلا الزعيم القائد الفذ يطاول عنان السماء، وآتٍ بما لم تستطعه الأوائل، ولا عاد جبرائيل بحامل رسائل، تلك رسالة اكتملت وتبقى إنسان يفكر بعقل أودعه المنان لجادة الصواب، وليس الفرض بالإكراه.
فلا قيد على رأي أحد، ولا تسفيه لمن يخالفنا الرأي دونما تسفيه وإلغاء، ولا شحن طائفي مناطقي، ولا تزييف ولي لعنق الحقيقة النسبية مهما كان الخلاف.. فالدين لله والوطن للجميع، والوطن ناس وتاريخ وجغرافيا. مصالح تتصالح تختلف، لكن لا تنهي حقائق التاريخ، وأيضًا لا تصبح قيدًا على التجديد والإبداع دونما ابتذال وإلغاء.
الحقيقة أقوى، ونورها أسطع من ترهات من يكمم الأفواه أو يلغيها تحت مفهوم أنا ربكم الأعلى. فمن يكمم الأفواه ويفقأ الأعين ويلغي عقولًا تفكر خارج قوالب الاتباع، فتلك قراءات تحتها رماد تحاول دفن الآخر باعتباره جحيمًا.
دعونا نختلف بحثًا عن الأحسن والأفضل، بدل التخوين والإلغاء والقتل المعنوي، فنحن في ظروف تعيشها بلادنا للأسف تجبر على التباين والاختلاف، لكن ليس ذلك نهاية المطاف. الاختلاف بداية الانطلاق للبحث عن نسبية الأشياء.. فالتاريخ حقيقة، والجغرافيا حقيفة تتباين بشأنها القراءات، ولكن لا تلغي الإنسان، لا يلغي نفسه، ولا يلغي تاريخه، ويظل الجهد الوطني الجمعي بعيدًا عن النزق والابتذال. ليظل شعارنا جميعًا أنا موجود إذن أنا أفكر، كي أفكر لا يحق لأي كان إلغاء وجودي، لحظة المشاركة لبناء الأوطان، فالوطن وطن الجميع، والأوطان لا تستبدل، هي ليست جحارة في عمارة آيلة للسقوط. الأوطان كينونة تواصل واستمرار، يعاد التصميم وفق معطيات اليوم دونما بتر لجذع الأمس، وطمس لحقائقه. لندع بلادنا بقواها الحية مجتمعة، بخاصة وقد مهدنا أرضية خصبة مثلتها مخرجات الحوار الوطني، يمكن اعتبارها أساسًا قابلًا للتطوير، تماشيًا مع ما يعتمل على الأرض من تفاعلات أضعفت عمدًا جزءًا منها جراء الحرب الضروس التي فرضت على بلادنا، وأنتجت قصدًا حقائق على الأرض، تتصادم مع مشروعنا الوطني المبني على أساس الحوار والاحترام والمصالح المشتركة، وليس الفرض بالقوة، ولا بتجاوز حقائق التاريخ التي تتطور مع تطور الواقع ومتغيراته، ولا تلغيه.
لهذا ندعو لعدم الإسراع برمي التهم. لا داعي لإلغاء الآخر الوطني ضمن قراءات تعيد تركيب التاريخ حسب ما يفرضه البعض أن يكون، وليس كما كان حقائق أثبتها التاريخ. وهنا نقول رعاك الله يا امرأ القيس، المسمى الملك جندح الكندي، حين قال في سياق التاريخ المثبت:
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإنا لأهلك محبون
تطاول الليل
أهل اليمن
فماذا أنتم فاعلون؟
هو ذات السؤال نسأله اليوم:
ماذا نحن فاعلون؟
كفى حربًا ودمارًا
كفى!