هل سأكون متشائمًا إذا قلت إننا نعيش فترةً ثريةً بالانهيارات الشاملة في كل شيء. فترة لا تصلح إلا للكتابة عن أشكال مختلفة من التفسخ الذي يشهده عالمنا كما كنا نعرفه. تفسُّخ الأوطان والأمم والمفاهيم التي كانت في حكم اليقينيات المطلقة، وتفسخ النظريات السياسية وقواعد الصراع.
هذه فترة اضطرام العالم وبلوغه مرحلة ما قبل الغليان بقليل، ولا نعرف من هو الطبّاخ ولا كيف سيكون شكل ومذاق الطبخة في النهاية. ما نعرفه أننا لم نعد كما كنا ولن نصبح كما كنا نحلم أن نكون. بينما استمرار السذاجة والتعامي ليس إلا نوع من السفه الممزوج بالغباء الجماعي. إنكار متأخر لتغيير لا يد لنا في حدوثه، كانت بذوره قد بُذرت منذ أمد لا بأس به، وفيها من مرونة الخيارات والاحتمالات ما يجعلها في حكم "أمطري حيث شئت": قول الرشيد هارون للسحابة، واثقًا من أن خراج ما سينبت آتٍ إليه أينما حل القطر. أما نحن فلا رشد لدينا ولا سحابة مرئية؛ كل ما نراه ضباب في ضباب، في طريق غائم نجيد فيه الهرولة إلى الخلف، لا لكي نتحسس مواضع أقدامنا استعدادًا لاندفاعةٍ إلى الأمام، بل لكي نختبئ من الآتي الذي لا يد لنا في دوزنة إيقاعاته.
كأننا حصى في مجرى اعتاد على غموض السيل المفاجئ. نسخر من فوضى الآخرين المرتبة. نتريث متقمصين صبر العاجز، ونفرح لمجرد عثورنا على جمل قصيرة نصف بها غموض الحال!