كان يحلم بغدٍ أفضل، لكنه وجد نفسه محاصراً بواقع مرير: سرطان منتشر في وطنه وجسده.
هنا، في أحد مشافي القاهرة، كان معاذ يصارع المرض بصمت. وضعه الصحي ينهار أمام عينيه، وسلطات بلده غارقة في صراعات لا تنتهي.
قبل نحو شهرين ونصف، بدأ معاذ، الشاب الثلاثيني الطموح، رحلته خارج اليمن بحثاً عن العلاج الذي لم يجده في وطنه. لم يكن السرطان وحده ما ينهش جسده، بل قسوة الرحلة في وطن تقطعت أوصاله وأغلقت طرقاته، وصراع السلطات المتعددة سد أبواب الأمل والنجاة أمامه وآلاف اليمنيين الذين يعانون المصير ذاته.
وفي وقت مبكر من صباح أمس السبت، استسلم ابن عمي للموت. وعدت به مشحوناً في تابوت، رفقة أربعة توابيت أخرى. يا الله ما أقسى أن يموت المرء خارج وطنه.
قصص مؤلمة تتكرر تباعا لواقع مرير وأحلام اغتالتها الحرب. مراكز الأورام في القاهرة وعمان تعج باليمنيين. النسب مهولة، والأرقام في ازدياد كارثي. بينما أطنان المبيدات المحرمة تدخل البلاد دون حسيب أو رقيب، ومعها ترتفع أعداد مرضى هذا الوباء الخبيث الذي استوطن اليمن.
لا أحد يهتم. الأطراف المعنية منشغلة بالصراعات على النفوذ، والقادة ينهمكون في مضاعفة ثرواتهم وتنويع استثماراتهم، بينما يتفنن مسؤولو الصحة في التسويف وتبرير خذلان المرضى.
وحين يحجزون مقاعد الدرجة الأولى على متن طيران اليمنية، لا يلتفتون إلى بقية الركاب في الدرجة العادية الذين يسافرون في الغالب صحبة العصي والكراسي المتحركة، محملين بالوباء القاتل القادم من تعدد السلطات وغياب الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن والمواطنين.
مرضى يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة، وآخرون يداهمهم الموت في المنافي وأروقة الطيران وفي المطارات. يستهلكون كل ما يملكون من أموال، ويستدينون الملايين، ثم يموتون. ومن يبقى منهم على قيد الحياة يعيش مثقلا بالديون والألم الذي تركته جرعات الكيماوي.
لو أن بلداً آخر شهد هذه النسبة العالية والمتزايدة من الإصابة بالسرطان، لأعلنت السلطات حالة الطوارئ القصوى، ووجهت كل مراكز البحث لدراسة الظاهرة وإعلان النتائج، ومن ثم العمل على وقف الأسباب وإصدار التشريعات الرادعة. لكن في وطن السرطان، لا أحد يهتم. لا أحد.
في اليمن، وباء السلطات المتعددة ينتشر كالسرطان، والفساد ينمو كما ينمو المرض. المستشفيات في بلدي باتت دكاكين تبيع الموت. نقص حاد في الأدوية والإمكانيات، والأطباء المؤهلون يغادرون بحثاً عن فرص أفضل. وحين ينشغل مغتصبو السلطة بالصراع على النفوذ وتنفيذ أجندات الخارج، تتلاشى الأولويات الإنسانية.
معاذ لم يكن الوحيد، ولن يكون الأخير. كل يوم، يغادر يمنيون بلادهم بحثاً عن علاج في رحلات محفوفة بالموت. يفرون من بيئة ملوثة وإهمال صحي ممنهج.
الرحمة والخلود لمعاذ وكل اليمنيين الذين ينزفون حتى الموت في ظل الإهمال. واللعنات لا تكفي لكل القادة الذين يقتاتون على جراحاتنا وآلام معاناتنا، ويلهثون وراء سلطة زائفة وحقيرة كما هو حالهم.