صنعاء 19C امطار خفيفة

عدن بوابة التغيير السياسي والوطني في اليمن المعاصر(2 - 2)

بدون إهداء:

إلى القاتل المأجور بدرجة رئيس دولة، علي عبدالله صالح، أسوأ رئيس عرفه التاريخ السياسي اليمني المعاصر.

رجل جمع بين البلطجة، والفهلوة، واللصوصية، والشعبوية التي دمّرت وحدة المجتمع والدولة. وصل إلى السلطة بالدم والاغتيال، بتدبيره مع قوى خارجية، جريمة قتل الرئيس الثالث للجمهورية، الشهيد، إبراهيم محمد الحمدي، الذي مازالت ذكراه العطرة حيّة في وجدان اليمنيين وأقلام الباحثين، تتجدد في كل مناسبة، بخاصة في ذكرى ميلاده واستشهاده النبيل.

لقد خلد الحمدي اسمه بإنجازاته في الإدارة، ومحاولة بناء الجيش الوطني، وتطوير العمران، وإرساء بدايات أولى لدعائم الدولة، وسعيه لتحقيق الوحدة السلمية. كما استكمل إنشاء التعاونيات بطريقة قانونية، ما جعلها تتوسع في مختلف أنحاء البلاد. هذه الإنجازات، رغم أن فترة حكمه لم تتجاوز أربع سنوات، جعلته رمزًا وطنيًا خالدًا في قلوب اليمنيين، قُطع مساره الحياتي بعملية اغتيال بشعة، نفّذها أبشع من عرفتهم الساحة السياسية اليمنية.

أما علي عبدالله صالح، فلا يليق به سوى وصف "القاتل المأجور". فهو المسؤول عن اغتيال الشهيد د. عبدالسلام الدميني وإخوته من الدكاترة الأبرار، والعقيد البطل ماجد مرشد في قلب صنعاء، واللواء يحيى المتوكل، وشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني، عبر التسميم البطيء، والشهيد جار الله عمر بتنسيق مشترك مع عبدالمجيد الزنداني، منفذه الإرهابي علي جار الله السعواني.

هذه القائمة مفتوحة، تحوي مئات الأسماء من الشهداء والضحايا، الذين لن يتسع هذا المقال والمقام لذكرهم جميعًا.

ورغم بقائه في الحكم أكثر من ثلاثة عقود ونصف، لم يترك صالح خلفه إلا خرابًا، مازلنا نراه اليوم واقعًا مريرًا في الشمال والجنوب.

النكبة الأكبر أن ما يُسمى "مجلس المثامنة"، الذي أطلق عليه زورًا اسم "المجلس الرئاسي الانتقالي"، ليس إلا امتدادًا سياسيًا وسلطويًا لمنظومة حكم صالح، بنفس الأشخاص والأسماء، وبنفس المحتوى الفاسد. هذا المجلس مدعوم من قوى إقليمية ودولية استعمارية، لا يهمها سوى عرقلة مشروع بناء الدولة اليمنية، ومنع التقدم الاجتماعي الذي يتطلع إليه الشعب.

ستبقى جرائم صالح ومفاسده وصمة عار تطارد اليمنيين لأجيال. والأسوأ أن هناك من مازال يردد: "رحم الله النباش الأول"، رغم أن هذا "النباش" -حفّار القبور- هو من جلب هذا العفن السياسي الدامي الذي يُمزق اليمن حتى اللحظة.

رئيس قاتل من لحظة اغتصابه السلطة، إلى خروجه منها مقتولًا، بلا كفن ولا قبر معلوم.

قُتل قتلًا يستحقه بجدارة، بعد أن أكثر اللعب على رؤوس الثعابين، حسب تعبيره الشهير. ستظل دماء شهداء الحراك الجنوبي السلمي، وشهداء شباب ثورة فبراير 2011م تطارده، وتُدين جماعته المجرمة، بمن فيهم أعضاء "المجلس الرئاسي الانتقالي"، إلى أن يتحقق الإنصاف والعدالة الاجتماعية، سواء عبر "العدالة الانتقالية" المنشودة، أو باستعادة الأموال المنهوبة المكدسة في بنوك الخارج، ليعود الحق للشعب اليمني صاحب الحق الحصري في هذه الثروة.

ولا عزاء للقتلة.

 

الجميل في عدن الوطنية والتاريخية، أنها استوعبت واستغرقت وهضمت في بنية نسيجها الداخلي هذه الأقليات العرقية المختلفة، وأسهمت في إعادة تشكيلهم وتكوينهم الاجتماعي والثقافي، وهم بدورهم أسهموا في إعادة صياغة المعنى الكلي للمدينة عدن، تحولوا بالتفاعل الحضاري والإنساني إلى جزء من تكوينها البنيوي (الاجتماعي والثقافي والنفسي)، كما كانت مصر، في القرون الثلاثة الماضية، وهي سمة عدن الإنسانية والرائعة، وهو ما يحاول البعض عابثًا تحويلها إلى قرية باسم التحرر والتحرير.. خطوات قهقرى، على طريق ترييفها، وقبيلتها وبدونتها.
ومن هنا تأكيدنا القول، من أن "الوطنية اليمنية المعاصرة"، في بداياتها التكوينية الأولى، إنما تبلورت وتشكلت من قلب ومن داخل مدينة عدن، وهي التي أكدت ورسخت جدلية الثورة اليمنية في الشمال والجنوب؛ وهنا أعود لوثيقة "حركة القوميين العرب" عام 1959م، تحت عنوان "اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية"، وهي الوثيقة السياسية والوطنية اليمنية الاستراتيجية الاستثنائية التي أعلنت لأول مرة، وبصورة واضحة، أنه لن تقوم ثورة وطنية تحررية في جنوب البلاد مادام الاستعمار يحاصر ويحتل البحر، والإمامة الاستبدادية الرجعية تحتل البر، وتمنع أية إمكانية لانطلاق الثورة، ليس في الشمال فحسب، بل وفي جنوب البلاد.
أي أن الثورة السياسية الاجتماعية ضد الإمامة القروسطية، والثورة الوطنية التحررية ضد الاستعمار، لن تكون ممكنة، ولن تقوم مادامت الإمامة والاستعمار يتحكمان بمصير شطري اليمن... حصار من البحر ومن البر. ناهيك عن أن العلاقة كانت جدلية، بالمفهوم السلبي للجدل، بين الاستعمار والإمامة في ذلك الحين، وهو ما تنبه وأشار له المفكر الشهيد محمد أحمد نعمان، وكذلك المفكر التقدمي عبدالله باذيب في كتاباته، وكذا في كتابات د. محمد علي الشهاري، ومحسن أحمد العيني.
لقد أكدت وثيقة "حركة القوميين العرب"، المشار إليها، أنه لا بد من قاعدة انطلاق للثورة في الجنوب -هكذا بالنص- تأتي وتكون من شمال اليمن الإمامي الاستبدادي -هكذا بالمعنى كذلك- وهو ما كان.
وهنا يكمن معنى ومفهوم "نقطة الانطلاق/ القاعدة"، أي جدلية ووحدة الثورة اليمنية، نقضًا لعقلية الوحدة والتوحيد بالحرب وبالغلبة، وحدة السيد والتابع، وحدة "الضم والإلحاق"، "وحدة الأصل والفرع"، الفكرة الأيديولوجية التي كانت وماتزال تهيمن وتعشش في بنية الوعي والعقل الإمامي وشبه الإقطاعي والقبلي والعسكري والديني السياسي في شمال البلاد، والذي انتهز لحظة سياسية وطنية مجيدة ونبيلة، وهي وحدة 22 مايو 1990م، لينقض عليها بالحرب، وليحوّل كل ذلك التاريخ المجيد الذي تحدثنا عنه إلى ركام ورماد سياسي انفصالي وتشطيري، وإمامي. وهو ما نعيش تفاصيله الجارحة اليوم.
إن جريمة حرب 1994م هي نقض عسكري للوحدة، وفيد أيديولوجي للتاريخ، بل لكل ذلك التاريخ السياسي والثقافي والوطني اليمني المعاصر... تاريخ الحداثة والمدنية والتقدم الاجتماعي الذي حلم به كل اليمنيين في الشمال والجنوب. هذا لمن لم يفهم ويعِ معنى التاريخ السياسي الوطني اليمني.
باختصار، إننا حين نتحدث اليوم عن بناء الجيش بعقيدة قتالية وطنية يمنية، بعيدًا عن المليشيات المسلحة، والأحزمة الأمنية والعسكرية الممولة والمدعومة من الخارج، وحين نؤكد على قضية استعادة الدولة، إنما نقول ونعني ونؤكد على الضرورة السياسية والوطنية لتحرير عدن وصنعاء، وتعز والمخا ومأرب والحديدة، وكل الجزر اليمنية المحتلة... تحريرها جميعًا من المليشيات الطائفية/ السلالية (العنصرية) في صنعاء، ومن المليشيات القبلية والعشائرية والمناطقية (الجهوية) في معظم مناطق الجنوب، بدءًا من تحرير عدن.
هنا نكون قد انتصرنا لعدن الثقافة والمدنية والحضارة، والوطنية اليمنية... نكون قد انتصرنا لصنعاء الصمود والتاريخ... انتصرنا لتعز وحضرموت وأبين والحديدة ومأرب ولحج وإب... باختصار: انتصرنا لأنفسنا ولليمن الديمقراطي الموحد... انتصرنا لدولة المواطنة المتساوية للجميع، بدون إقصاء ولا تهميش لأحد.
ولنتفق بعدها على كيفية شكل النظام السياسي (نظام الحكم)، وهويته السياسية والدستورية: فيدرالي من إقليمين، أو ثلاثة، أو وحدة كونفيدرالية، أو حتى "تقرير المصير" بالانفصال، إذا كان ذلك هو ما تقرره الإرادة الشعبية الديمقراطية الدستورية الحرة لكل من أبناء الجنوب والشمال، دون وصاية خارجية أو تنفيذ لمشاريع إقليمية ودولية استعمارية.
وهو ما نراه اليوم بأمّ العين المجردة في صورة ما يجري في كل جغرافية الوطن اليمني، ودون أية مشاركة فعلية لنا في كل ذلك، كأننا نقف مشدوهين ومندهشين ومتفرجين على كراسي المسرح، وكأن الأمر لا يعنينا... وكأننا أمام مسرح العبث واللامعقول، ولكن في مسرح الصراع على السياسة والسلطة، وليس في المسرح الفني لجان كوكتو، وصمويل بيكيت.
إن الوطنية اليمنية المعاصرة اليوم تتشكل من جميع مناطق اليمن، لم يعد هناك مركز (منطقة) واحدة هي مصدر الإشعاع السياسي والوطني والثقافي والتنويري (الحداثة).
فبعد الثورة اليمنية، ومع التطورات الاتصالية والمعلوماتية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، صارت جميع مناطق اليمن نقاطًا وبؤرًا لانطلاق الحداثة والتحديث، على قاعدة فكرة المواطنة.
ولم تعد "المعلامة" و"الكتاب" والمدرسة هي المصدر الأولي والوحيد للتعليم والمعرفة، كما كانت في المرحلة الإمامية والاستعمارية... صار الفضاء الاتصالي والمعلوماتي المعرفي والعولمي هو المدرسة المفتوحة للتعليم والمعرفة... التعليم الذي لم يعد للحفظ والاسترجاع، بل للدرس عبر السؤال، والتحليل النقدي، والاستنتاج، هذه هي المدرسة المنشودة المفتوحة، التي تقودنا إلى المستقبل.
فقد فتحت الثورة والجمهورية، في الشمال والجنوب، الباب واسعًا لجعل التعليم -نسبيًا- في متناول أوسع قطاع من ناس المجتمع، وجاءت التطورات الاتصالية والمعلوماتية والمعرفية الجديدة -كما سبقت الإشارة- لتقلّص حد الصفر من جدل العلاقة بين الزمان والمكان، لصالح الإنسان، من خلال ما يشبه -إلى حد ما- وحدة الزمان والمكان.
فصل الخطاب:
إن سبب استمرار الأزمة السياسية والوطنية الراهنة، وتعثر سيرنا وحركتنا نحو بناء الجيش الوطني واستعادة الدولة، هو أن من يقول عن نفسه إنه "الشرعية"، لم يقدم نفسه كمثال/ نموذج على ذلك، والأخطر أنه بدون عاصمة، وهي من مفارقات الحديث عن بناء الدولة، أو استعادتها، من خلال التنقل بين العواصم الأجنبية! ولم يتأكد في واقع الممارسة أنه يحمل مشروعًا وطنيًا للتغيير، بل ولا حتى للإصلاح.
وليس هناك ما يؤكد ويبرر أفضلية ما تسمى "شرعية"، حتى اللحظة -على الأقل- عما يقابله في الطرف الآخر من مشروع طائفي/ سلالي -مع الأسف- وهنا تكمن أسباب ديمومة واستمرارية المشروع الآخر "الطائفي" العنصري.
هنا تكمن أزمتنا السياسية التكوينية/ المأساوية الراهنة، التي جعلت -وماتزال تجعل- من الأزمة حالة مستدامة، لا أفق معها للحل على المستوى المنظور والمتوسط، وهو ما نعيشه منذ أكثر من عشر سنوات عجاف.
تلكم هي أحد أبعاد الأزمة والمشكلة -أقول أحد الأبعاد- وعلينا ونحن نفكر بالحلول أن نضع كل ذلك أمام عيون عقلنا الناقد والباحث عن الحل، بعيدًا عن رومانسية الخطاب الذي لا يقارب الحل. ومع كل يوم يمر، يبتعد بنا عن الحل أكثر، بل يجعل الحل أكثر صعوبة وتعقيدًا، وإن أتى فسيكون بتكاليف سياسية واجتماعية واقتصادية ووطنية باهظة على كل اليمن، وعلى الحاضر، وعلى كل المستقبل.
هذا لمن يفهم!
وليس لنا من القول سوى: "شر البلية ما يضحك"، وهو حقًا ضحكٌ كالبكاء.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً