كانت التواهي تودع الغروب بألوان الكهرمان المتداخلة في آخر شعاع في الشفق.. والغربان تنق والبوم ينعق في مخازن الميناء الشهير الثالث بعد إغلاق قناة السويس وانسحاب مصر من اليمن وهزيمة 67م الساحقة التي نسميها النكسة.. لم تعد اليمن تحتل الصدارة في سنة جمرنا تلك بعد أهوال هزيمة العرب وامتداد الاحتلال الصهيوني المحتم.. آخر محاولات الزعيم الإنسانية الوطنية تجاه اليمن كانت محاولة لم شمل الجبهات المتناحرة التي كان قد شجع كفاحها من تعز كالجبهة القومية وجبهة التحرير وتنظيمها الشعبي.. ودامت اجتماعات مضنية كثيرة لهذا الغرض، وعدت الأطراف المتناحرة بالاتفاق عليها في ما سمي بمشروع "الدمج".
لكن الجبهة القومية كانت بإيعاز حركة القوميين العرب المناهضة للناصرية، كانت تظهر ما لا تبطن.. والتحرير بقيت في معاركها مع البريطانيين كمن يخوض عراك فتوات الشوارع.. اضرب واهرب.. إلى أن تحول العراك مجددًا إلى اغتيالات شوارع ونذر حرب أهلية شراراتها تتطاير.
همفري تريفيليان لم يسقط ولا تكسر! كان، في أحسن حالاته، يدير الأمور كالآمر الناهي المنتصر.. ومخابراته تنسق مع ج. ق. أمورًا في البيت الآمن بحافة الحدادين، مع أحباب حواتمة! ويمارس لعبة التنس في دار الحكم بالتواهي لساعتين بين الخامسة والسابعة ساعات الشفق البديع على ساحل جولد مور.

في جنيف نجحت مفاوضات الاستقلال لصالح تمكين ج. ق. من سلطة ما بعد الاستقلال، وفي القاهرة لم ييأس جمال عبدالناصر حسين من مشروع دمج الجبهات للاستقلال الناجز.. وبرغم ثقة رجاله في المشروع، إلا أن قحطان الشعبي تسلم إخبارية سرية من جماعته في عدن تقول: "اقطع ما تفعله عندك على وجه السرعة وارجع.. نحن نسيطر". ولم يبقَ من مشروع الدمج المرتقب غير كلمات مداد على ورق!
لم يستهدف الكفاح المسلح بعد ذلك غير بعض الاغتيالات لهذا أو ذاك، ومن جماعة رابطة أبناء الجنوب أساسًا لمعاداة الجبهتين لها.. وجرت مظاهرات خائبة وإضرابات بلهاء لعمال ميناء مقفر فارغ من الباسنجر والبضائع.. وأغلقت صفية فانوسة محل الكوافير الخاص بها في خور مكسر، ودمر مطعم الباجودا الجديد الفاخر التابع للغانم في سوق الشابات، وأقلع بار الشموع عن تقديم المزات لرواده.. وفي سجلات الكفاح المسلح رأينا قدام مقهى الكيرم الذي نلعب فيه الكيرم للنعماني، مستودع العرب الذي كتب على لافتته بيع قطع الغيار، يخرج الكثير من الأسلحة، ويزود بها مناضلي ج. ق. عيانًا جهارًا، لتعزيز حربها الأهلية ضد ج. ت! قتلت طفلة بريطانية في عيد ميلادها السابع، وأحزن البريطانيين الخبر، ونقل لهم تريفيليان تعزياته!
في البيت الملاصق لبيتنا في الشيخ عثمان، كان السيد سند باسنيد، رجل أعمال بدين ينتمي لحزب الرابطة، يجري بخفة شاب في العشرين نحو بيته، ويلاحقه مسلح بخفة بعد إطلاق بضع طلقات زادت من خفة باسنيد، ووصل لاهثًا إلى درج بيته وأنا أتابعه بنظرات مفزوعة.. ودخل درج البيت والملاحق خلفه بالمزيد من طلقات المسدس تركت أثرها على الجدار، لكن الباسنيد لم يصب بغير خدوش من أسمنت الدرج، وفي اليوم التالي سافر إلى جدة، تاركًا مصنع مشروبات غازية اسمه "ميشن"، وتاركًا ليموزينه الأمريكية الصنع بموقف سيارات المطار!
أما الاغتيال الذي أثر في نفسي وروعني ومازال، فقد كان لابن حافتنا الحبيب ذو الكفل زين صادق الأهدل، الذي كان أبوه قياديًا في الرابطة ورئيسًا لنقابة النجارين.. جاء القاتل يقصد قتل الأب فأجابه الابن بأنه ابنه فأطلق عليه النار وقتله وهو يقول لن أرجع خائبًا! بكيت وأنا أتابع كلام الأب عن الحادث في التلفزيون، وسافر أيضًا إلى السعودية بعائلته ومنهم صديقي ذو النون وأخواه صادق واليسع.
تتوج عام الجمر الحزين بالمزيد من الاغتيالات، أشهر ما أذكر منها اغتيال الزعيم العدني الذي قابله جمال عبدالناصر، وعبر عن دعمه لحزبه، وهو النبيل مكرم عنتر الذي بهر الناظرين وهو قدام شوكي الشيخ يلاحق قاتله والدم يقطر منه!
لم يختم عام الجمر أيامه بخير، فقد دارت خلال أواخره حربان أهليتان فقدت فيهما صديق عمري العزيز السيد عمر الرخم السقاف، رائد المسرح الريفي والمناضل الشهيد!
قال الأستاذ عبدالله الأصنج عن الحرب الثانية: لم تكن تنقصنا الشجاعة، لكن الحظ خذلنا.. ومؤامرة فاقت كل تصوراتنا!
وقبل اختفاء آخر شعاع في الشفق على ميناء التواهي، كان قائد عسكري بريطاني يقوم بالإنزال الأخير لعلم بريطانيا عن عدن للمرة الأخيرة... ولم يحضر مندوب عن استقلال البلاد ليرفع علم الاستقلال محل العلم البريطاني.. وغربت الشمس على الشعاع الأخير في الشفق على ساحل جولد مور... ومازال علم الجنوب بحاجة إلى من يرفعه عاليًا في شفق فجر جديد.