ما أكذبش عليكم. أنا في السياسة قبل الاستقلال بست سنين، بس كان علمي دخن زيما يقال.. يعني ثور الله في برسيمه.. كنت كدا أحسب دي الأمة اللي تقاتل الإنجليز وتتقاتل بينها عشان الاستقلال يعني بعد ما يخرجوا الإنجليز بايجلسوا عقال ومؤدبين وبايختاروا لنا رئيس يشكل حكومة تعجبنحنا وتمشي البلاد بالطيب.. بس ماكانش الشغل كله كده.. المبدأ عند أبتهم كلهم أنه ما مصلي إلا وساهن مغفرة على قولة الشيخ البيحاني مرشد الإخوان المسلمين عندنا، واللي كان يخطب ويمرطنحنا البطاطة وهي ساخنة.. بس أنا كنت حريف بالكيرم، خاصة بعدما هبا لنا النعماني بودر نرشه ويزحلق الحجار وأسدد فورة.. كدا كنت غشيم وقليل أهبل وأكره السياسة منشان كدا ولا دخلت حزب ولا مشيت مظاهرة ولا جدتي.. وبعدين أقول مع نفسي ما لهم الإنجليز؟! طيبين وقالوا بايخرجوا من بلادنا وبايهبوا لنا الاستقلال بداية سنة ثمانية وستين، 1968م. يعني بعد أقل من سنة، فليش عاد بالفشكرة والهدة والندة والقتال والمقتالة، كنت شايف أنه دا مالوش عاد لزوم وبلاش منه.. لكن عاده إلا الطحين زاد زيادته.. في الشارع السياسي كانت أسهم دولة رئيس وزراء ولاية عدن عبدالقوي مكاوي في عنان السماء وما يغلبهاش غلاب حتى بين أوساط وصفوف الجبهات المعارضة للتحرير.. مافيش كلام المكاوي كان الرقم الأول وما يغلبوش غالب، وبعدين جمال عبدالناصر يحبه من قلبه ويدعمه، والناس كلها تحب عبدالناصر.. وحتى اللي ميحبونوش يرفعوا تصاويره في مظاهراتهم!

كان المكاوي قبل السياسة مدير عام بيت البيس.. وتوني البيس من عيال عدن وشجع كل دونا المناضلين وقام بالواجب معهم!
المكاوي انتخب رئيس للوزراء بعدما استقال السيد زين باهارون رئيس الوزراء اللي قبله وصاحب النظارات كعب الفنجان! بس المكاوي ثقل كثير عيار السياسة ضد الإنجليز من كرسيه في رئاسة الوزراء (ودا كلام مش مليح بحكم وضعنا فيما بعد اللي اتجرجرنا به). كان لازم يظهر مرونة قدام الإنجليز ويلعب سياسته بخفاء أكثر.. لكن المرحوم عدني أصيل ويلعب بالمكشوف لما خلى الإنجليز يجيبونحنا كبع بعدين زيما شفنا مع ج. ق.
لا يتخلف اثنان ولا ينتطح كبشان ولا امرأتان على زعامة ورئاسة المكاوي لعدن حتى المعارضين له من اللي بالي بالكم، كلهم يقولوا بيقع خير.. بانخليه رئيس وإحنا حكومة باتلعب بالبلاد لعب شوطح يا مسلماني من تحت إلى تحت وعلى الله الخراج!
في أواخر فبراير 1967م، قتل 3 شهداء من أبناء المكاوي، مع رجل أمن، في تفجير استهدف بيت المكاوي. ولما كانت العلاقة مش مليحة بين القومية والتحرير، راج الاتهام ضد القومية اللي شاركت في العزاء والتشييع، وأنكرت صلتها بالموضوع نهائيًا، وحسب ظني أن القومية لم تكن تهدف لقتل أحد بقدر ما كانت تهدف لبث الرعب في قلب المكاوي وجبهته التي تفاقمت شعبيتها وغطت على شعبية ج. ق. ولكي يتراجعوا ويتنازلوا قليل لـ ج. ق. لهذا كان موضع التفجير بعيدًا في الحوش، ولم يحسب حساب قتل أحد!

بعد عدة سنوات أصدر المكاوي كتابه الشهير "شهادتي للتاريخ"، وزودني بنسخة منه صهر المكاوي صديقي علي أحمد إسماعيل، عن طريق المناضل حسين هادي عوض العولقي، من أبوظبي. وكان دخول هذا الكتاب أخطر من دخول شحنة مخدرات أو حتى لغم إلى عدن.. لكني غامرت بالحصول عليه وقرأته أكثر من مرة بملحقاته وبشغف شديد.. وكتب فيه المناضل أبو الشهداء اتهامًا صريحًا لسالم ربيع، سالمين، بأنه الفاعل.. لكن باقي المرويات والبيانات نفت ذلك (ولا بد ومن الطبيعي لها أن تنفي، وأميل إلى تصديقها، لأن سالمين كان وقتها المسؤول التنظيمي لأبين، وليس لعدن، لكن يعلم الله بالحقيقة). وشهدت عدن ذلك الشهر أشهر مسيرة تأبين لشهداء المكاوي طوال تاريخها، وشاركت الجبهة القومية في مسيرة التأبين تلك، مكررة نفيها ضلوعها في الأمر.. بل وزعت التهم لغيرها، وحتى أعلنت أنها سوف تنتقم لقتل أولاد المكاوي أبو الشهداء!
بعد أيام أعدم تحت مسجد النور بالشيخ عثمان، 3 من عناصر رابطة أبناء الجنوب بلا ذنب.. وكثيرًا ما تكررت للرابطة حوادث مشابهة بلا جريرة... وفي عدن كلها من أقصاها إلى أدناها لا يختلف وقتها اثنان ولا ينتطح كبشان على أن رئيس دولة الاستقلال القادم سيكون هو أبو الشهداء عبدالقوي مكاوي نفسه ولا أحد سواه.. لكن الرياح المضادة لنا دومًا ما تأتي بما لا تشتهي سفننا.. والسواعي كما كنت أقول دائمًا لا تهوى غير سنابيقها.. وقد كتب علينا أن نتعلم السياسة بالطريقة الأصعب، فرحت في المساء إلى مقهى النعماني بالشيخ عثمان أنتظر دوري في الكيرم.. وكان مذياع النعماني رافعًا صوت راديو فيليبس ينشد أغنية عبدالوهاب من "صوت العرب": "إحنا الشعب الثوار.. إحنا الشعب الأحرار.. عارفين المشوار". لكن الحقيقة المريرة كانت هي أننا كنا كلنا نجهل المشوار.