صاحبي وزميل سنوات أرذل العمر عند حلاق الزعفران الشهير أمير الإبي، ابن عدن التي أحب كتابة اسمها على مراياه... إيه يا أمير.. قلت لي إن فؤاد الشريف جزع وسأل عني؟ قال لك بيرجع وإلا ماشي؟ قال بيروح بيته في الممدارة.. إيه يا ابن أمشريف بعد ذلك اليوم لم ألقك ولم أتلقَّ غير نعيك الأليم من أمير الزعفران، رحمة الله عليك، وعلى "فيسبوك" صورتك الوداعية الأخيرة، وأنت تشرب المانجو، رأيتك فيه. وبكيتك.. كم يبلغ عمر تعرفنا يا فؤاد؟ فأنا لا أجيد العد.. أيوالله صدقت قرابة 70 سنة... إيه يا فؤاد.. ما أطول العمر وما أقصر الوقت!
شفت فؤاد أول مرة بحافتنا في الشيخ قسم D10 (تونس الآن)، وفي سكة البيوت المقابلة يقع بيت السيد منور شريف الرفاعي الذي يقصده فؤاد، وهم أهله، يصل بين اليوم والتاني حافتنا لزيارتهم، وقتها كنت في سن الحادية عشرة وعدة شهور.. ونتوالم على بابور الشريف الإنجيليا، ونهتف بحياة منولوجست عدن الأشهر.. ويا محترم عيب البصوص وكدا.. وبعد ما نشل بعده كورس يطلع جري بيت أقربائه آل الرفاعي، وفيهم صديقا الطفولة أحمد وزين. ما يفرق بين فؤاد وبيت منور هو بشرة فؤاد الشريف السمراء، وبشرتهم الخمرية المائلة للبياض... ويرجع ذلك إلى كون السيدة أم فؤاد صومالية الأصل.. وهنا يأتي الخلط الذي يفترضه الناس في هوية فؤاد، وأداء فؤاد الغنائي الذي بلبل أذهان الناس باللهجة الزبيدية التهامية، فالزبود مثلهم مثل الصومال يشتركون في نفس لون بشرتهم، لذلك اعتبر الجمهور فؤاد الشريف زبيديًا قحًا.. فهو يتكلم كزبيدي، ويغني كزبيدي، وينكت كزبيدي، ويتمايل برقصه كزبيدي.. إذن فهو زبيدي!
في ذروة انبساط عدن وترفها الفني وازدهارها الحياتي، بلغت شهرة فؤاد أمشريف عنان السماء، وأصبح رمانة الميزان في أي حفل فني ساهر.. ذلك عندما كان التنافس بين فناني عدن في أوجه.. وعلاوة على دور السينما تقام سرادقات في الميادين من طرابيل المخادر وألواح الخشب، وتعم الحفلات على أرجاء عدن الزمن الأول.. وحتى إن فؤاد الشريف الذي كان قد نال شهرة عالية، كان يتنقل لأداء نمرته الكوميدية بين أكثر من مخدرة ودار.. وقيل إنه في ليلة واحدة ظهر في 3 حفلات بالتناوب!
كان دائمًا مطلوبًا بين وصلات الفسحة التي تفصل بين ظهور فنان وآخر.. وبلغت بذلك شهرته القصوى!
في زمن الكساد الفني وشحة قيام مخادر الطرب، اتجهت بوصلة فنانينا إلى دجيبوتي، فمن نحنا في الأخير ومن جيبوتي، الحال واحد كما عبر مؤسس جيبوتي الحاج حسن جولييد أبتي دون بقوله لرئيسنا العطاس: "وريا من نحنا ومن أنتم؟ أنتو بلوتاريا وإحنا زيكم عيال سوق!".

ذات مرة مرت بالبلاد مشاحنات بين عبده وسالم وعلي ومصلح ومندري أثناء وجود جماعة من فنانينا في جيبوتي، وتوصلهم الأخبار إلى هناك.. أصل نظام الدفع في راديو جيبوتي لفنانينا يتم على احتساب عدد المرات التي تذاع فيه الأغنية، ويقبض الفنان حقوقه على عدد مرات إذاعة أغنيته.. لذلك كان فنانونا إلى جيبوتي رايح واجي من عدن عشان البيستين!
وفي واحدة من رحلات العودة إلى عدن، وروى لي فؤاد حكاية أيام توتر نشب بين عنتر وفتاح.. وصالح وعلي سالم وعلي ناصر ومصلح وشايع ومحسن وقاسم، يعني البلاد كانت سلطة مخضرية! وفي الطيارة كان الشريف وحسن فقيه وآخرون في رحلة العودة، سكرانين سكرة أحمدي.. فدخلوا على الطيار في قمرته، وبوسوا رأسه وهم يبكون مطنطنين من السكار، وقالوا له افري السكان، دور الخط ورجعنحنا جيبوتي، ماعاد نشتي ولا عدن ولا أهواله، ماعد فيبيش إلا عنتر قبص محسن والسيييلي لطم شايف.. وناصر زبط باجمال، ومفيش عاد أي سلا ما فيبيبيش إلا سيدي أخس من ستي... ولم يفق السكارى إلا في مطار عدن وبكل هدوء!
بعد أحداث يناير الدامية بلغ الإنتاج الفني في عدن مستوى الحضيض، ووصلت أحوال الهروب الكبير من عدن إلى صنعاء نسبة غير مسبوقة وقياسية بأعلى المستويات طوال تاريخ العلاقة بين الشطرين، واستقبلهم علي ناصر ورجاله بترحاب تام، وأجرى لهم المعاشات بلا استثناء، وكان منولوجستنا فؤاد الشريف على رأس من رحلوا!

كانت الخدعة الكبري في حرب يناير المؤسفة، هي اختراق دبابات "الطغمة" لطرقات المدينة واستحكامات وشوارع وكمائن حراساتها التابعة لـ"الزمرة"، هي تعليق صور كبيرة ملونة للرئيس علي ناصر محمد في مقدمات وجوانب هياكل دبابات الغزو التي يقودها قائد الدبابات هيثم قاسم، لإيهام الكمائن وسائر العسكر والحضور بأن هذه الدبابات جاءت لنصرة علي ناصر وقواته في الميدان.. وانطلت الحيلة.. ووصلت الدبابات وصور الرئيس ناصر عليها، ورأيت بعضها بعيني التي سيأكلها الدود عندما أموت!
وانتصرت "الطغمة" وانهزمت "الزمرة" حسب توصيفاتهم التي تعرفونها!
وفي الوحدة انتقلت للعمل في صنعاء، وكنت أبحث عن بيت أسكنه، والتقيت صدفة بفؤاد الشريف في مقهى العدنيين، ولما عرف أني أبحث عن بيت قال إن له كلمة على صاحب العمارة، وسيقنعه أن يوفر لي بيتًا في عمارته الكبيرة بجانب الشريف، فسألته: كيف ستقنعه في أزمة السكن هذه التي اجتاحت صنعاء؟ قال: استطعت إقناعه بأن شغلي الأساسي في القصر الجمهوري ينحصر في إشرافي على غرفة نوم الرئيس صالح.. وبالذات الإشراف على سلامة سرير الرئيس صالح من أي شوائب، وقد صدقني الرجل.. لكني أنا طبعًا لم أصدق! وانتهي الأمر بسكني في الطابق الأرضي من فيللا السفير الفاضل حمود المخلافي بشارع الزراعة بالقرب من مقر الإذاعة ومجلس الوزراء ومقر وزارتينا الإعلام والثقافة.. وسكن صديقي سعادة السفير علي عيدروس يحيى العراشة في الدور العلوي، وسكنت أنا في الدور السفلي في خمس غرف وحمامين بريستو وترسو، ومن حولي حديقة غناء من أشجار الخوخ، الفرسك، ودوالي العنب الصنعاني الألذ في كل العالم... وفي ذلك البيت وفي صنعاء أمضيت 5 من أجمل سنوات عمري الوحدوية التي تمنيت ومازلت أتمنى لو امتدت على أسس حضارية إلى الأبد.