لا أتذكر أول زيارة لي لمصر، كنت لم أعِ نفسي بعد ولا العالم حولي، أو بالأصح تقسيماته الجغرافية التي تفصل بين الإنسان وأخيه، ولربما لهذا السبب عينه تداخل عليَّ مشهد الوطن، وما يمثله من صور ذهنية بين اليمن ومصر، فاللهجة والشوارع والمظاهر الثقافية والتفاصيل والطباع على تباينها، إلا أنها أصبحت بذات المألوفية، وأصبحت مصر -مع تكرر زياراتنا لها منذ طفولتي وولع والدي بها- بلدًا لا يبعث على الغرابة في نفسي، بل الأُنس.

لكن تأثير مصر لم يكن حبيس رقعتها على الخريطة، فهي الدولة العربية الأشهر صيتًا، تسافر لنا إن لم نسافر لها، تأتينا في دوبلاج أفلام الكرتون ومن خلال السينما، وفي حالتي كانت حاضرة أيضًا في الأثر الذي تركته في حياة والدي الذي درس فيها المرحلتين الإعدادية والثانوية، وحرص على تمرير ذكرياته من ذاكرة إلى ذاكرة كما تفعل همزة الوصل!
إضافة لكل هذا الزخم، كانت أسرتي شديدة الانتماء للجمهورية في اليمن، تلك التي ناصرها جمال عبدالناصر الذي اكتشفت لاحقًا جدلية حكمه بين المصريين، لكنه كان صاحب موقف لا يُنسى لدى اليمنيين! وبين كل هذه الظروف كبرتُ أنا، أحمل في قلبي مشاعر أكبر من قلب طفلة، لأم الدنيا التي لا تكف فيها الدهشة عن الحدوث.

كل هذه الأمور كانت فقط بداية رحلتي في حضرة أم الدنيا، التي ما إن أصبحت شابة إلا وزرتها كثيرًا بمفردي، لتزودني بمخزون لا ينفد من الذكريات والمواقف الطريفة والحزينة، في ثنائية لا تنفك أم الدنيا عن تجسيدها، وهي الشيء وضده، والنقائض مجتمعة، والوقت الذي يقسو ويحنو، والحالة التي تسلم نفسك لها طواعية كأنك تحت التنويم المغناطيسي، وبعد كل رحلة تدرك أن ذلك البلد أقسا أم رأف، فإنك عاجز إلا عن حُبه.
كنت أنا صاحبة عين تأسرها الثقافة وملاحظة الناس وتتبع اللغة، وربما بسبب هذه الحقيقة زاد تعلقي بمصر، لأنها ذات قدرة خارقة على الفكاهة وخفة الظل، وكأن كل هذا الضحك هو آلية الدفاع الأولى في وجه الحياة كلما عبست، أو لعله الإصبع الوسطى التي يرفعها الشعب المصري في وجه التعب والمآسي مهما تفاقمت! لطالما رأيت قوة استثنائية في اللطف أمام القسوة، وهذا ما يجيده المصريون! أما سحر شعبها فهو برأيي يتمثل بالطمأنينة التي يضفونها على الأجواء، حتى في أشد اللحظات صعوبة، كأن تكون مريضًا في المستشفى تستعد لتلقي العلاج، فتتلقى الكلام الحنون الذي يطمئنك! كنت مصابة بالفوبيا من الإبر، والمكان الوحيد الذي استطعت تجاوز هذا الأمر فيه هو مصر، وكنت فاغرة الفاه أمام كل هذه المعجزات الصغيرة والكبيرة.

كلما باعدت الشهور بيني وبين مصر، زادت الشجون في قلبي، أحن لمغامراتي ولحكايات الناس، ولروح الأماكن، أحن لحوارات عابرة مع سائقي سيارات الأجرة وزوجة البواب والأصدقاء قريبهم وبعيدهم، أحن للمدن والطرق والجي بي إس الذي يضيع وجهتي أكثر مما يدلني عليها، أحن للأكل والديكور في البيوت العتيقة، والكبار في السن وللحكائين الذين لا أكثر منهم في مصر، أحن للقصص القديمة، وأحن حتى للذكريات التي لم تحدث بعد. في مصر الحنين سيد الموقف، وفي حضرة أم الدنيا لا نملك شيئًا إلا الحب.