صنعاء 19C امطار خفيفة

بمناسبة شهر رمضان المبارك..

بعض من التشريعات الإلهية والدنيوية "الموجزة"

كنتُ عقدتُ العزم على الصوم بجانب الامتناع عن كل ما يفطر الصوم، عن كتابة المقالات، بخاصة السياسية منها، لكنني أردتُ أن أكتب مقالة موجزة عن "بعض من التشريعات الإلهية والدنيوية"! وبحسب ثقافتي المحدودة، في الجوانب الدينية، والدافع لذلك سببان:

 
- أحدهما.. بمناسبة شهر رمضان المبارك وأيامه الروحانية؛
- والآخر: اتهامي من بعض القراء لمقالتي الأخيرة، التي هي عن مخرجات الحِوار الوطني، ممن وصفني بعضهم بالعَلْمَنَة، وهي التهمة التي جاءت من شخص أو شخصين لم أتوقع منهما ذلك! إضافة إلى اتهامات أُخرى كـ: "مناطقي" و"دوشان!" و"غبي؟!" الخ.
ورغم التزامي بالصمت غالبًا عند وجود اتهامات ضدي على بعض مقالاتي، وهي ليست ضئيلة، كون الصمت هو الأفضل، إذ لستُ بحاجة إلى إظهار عكس ما جاء بمعظم تلك الاتهامات، إلا أن اتهامي بالعَلمَنة والفُسوق، ومن شخصيات شبه مُعتبرة، رأيتُ الرد عليه أو عليهما، ولو بصورة غير مباشرة، ومن خلال مضمون أحسبه يتنافى كلية مع جوهر من يمتازون بمثل تلك الصفات المذمومة تمامًا! ولكي يفكرا مليًا قبل اتهام من قد لا يتوافق مع بعض توجهاتهما السياسية بالذات! مع أنني سوف لن أذكر هنا الأسماء، لأنني ممن "لا يحب الله الجهر بالسوء" و"وقولوا للناس حُسنًا"! ثم، اغتنامًا لهذه الأيام الروحانية المباركة بتسطير هذه الأحرف.
ولأن الكتابة على التشريعات الإلهية والدنيوية بوجه عام تحتاج لعشرات بل لآلاف المقالات، إلا أنني سوف أوجز ذلك بمقالة واحدة وموجزة، وبحسب خلفيتي الثقافية بهذا الجانب، ومن خلال قراءتي لبعض أهم الكتب الثقافية الإسلامية، ولرجال أحسبهم مستنيرين.. ومنهم سيد سابق الذي أستقيتُ بعضًا مما أقوله هنا من بعض مؤلفاته، ومحمد الغزالي وأمثالهم، رحمهم الله، كما أنني لا أرغب أن أنازع الحق أهله ممن هم متخصصون بهذا الشأن! الخ.
 

لذلك، أقول إن الإسلام كما هو معروف هو دين سماوي عَالمي، كما أنه ليس خاصَا بزمن محدد، ولا بجيل دون جيل، ولا بأُمة دون أُمة، وإنما هو للناس كل الناس، منذ أن بعث الله سيدنا محمد -صلَّى الله عليه وسلم- بهذا الدين، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو دين سماوي، شمولي لكل البشر في كل زمان ومكان، وهي ميزة للدين الإسلامي دون ما عداه من الأديان السماوية التي سبقته: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا" الآية 28 من سورة "سبأ".

 
ويقول الرسول صلَّى الله عليه وسلم: "كان كل نبي يُبعث في قومه خاصة، وَبُعثتُ إلى كل أحمر وأسود"، أو كما جاء بنص الحديث النبوي الشريف.
وبالطبع، لا بد من وجود أهداف نبيلة من عالمية الإسلام، وهي كثيرة ومتنوعة.. لكن أهمها.. حسب فهم كاتب هذه "الأحرف"، تتمثل في التطلع، بل العمل على قيام نشر المحبة والروابط الإنسانية وبعض القواسم المُشتركة بين مختلف الأُمم والشعوب بوجه عام!
وفي نفس الوقت، فإننا نجد الإسلام يقوم على تشريعات إلهية، سماوية، كما هو الحال في العبادات، كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وظلت وظيفة الرسول صلَّى الله عليه وسلم، طوال حياته، تقوم على توضيح هذه الجوانب، وتَبْيينها وتفسيرها للصحابة من حوله، والذين كانوا بمثابة كُتاب وأعلام يسمعون ويستوعبون ما يقوله الرسول لهم!
هذه التشريعات بعد توضيحها وتبيينها وتفسيرها هي ما يُطلق عليها بـ"السنة النبوية".
وهناك جوانب دنيوية، وفي إطار الإسلام نفسه، كالجهاد والقضاء، والجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وما شابهها!
وهي تقوم على توضيح وتفسير من خلال اجتهاد بعض أهم العلماء والتشاور فيما بينهم بعد العودة إلى القرآن والسنة من جِهة، وبين السلطة الحاكمة والشعب في إطار دولة أو وَطن ما، من جهة، الخ.
وتلك هي الطريقة ذاتها التي كان الرسول صلَّى الله عليه وسلم يقوم بها مع الصحابة، أعني التشاور بينه وبين صحابته في مثل هذه الجوانب الدنيوية.
وبالنسبة للاجتهاد ببعض الأُمور الدينية والقضائية وغيرها، لا بد أن يكون الذي يجتهد بذلك، عَالِمًا وعارفًا بصورة عميقة بكتاب الله وسنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ويبتعد عن التقليد الأعمى دون وجود أدلة قوية وواضحة، كما يجب عليه الابتعاد أيضًا عن التعصب لمذهب مُعين أو لفكرة محددة، كما هو حال بعض عُلماء اليوم، أو بالأحرى المحسوبين على العلماءَ! أحسب أن هناك شروطًا لا بد من توافرها بمن يمكنه الاجتهاد، مذكورة بكتب الفقه الإسلامي، فرحم الله سيد سابق، فقد شرح مثل هذه الجوانب في كتابه القيم "فقه السيرة"، بلغة سهلة وتوضيح يمكن لكل راغب بالفهم أن يفهمه!
والحديث عن بعض التشريعات كالجهاد والقضاء وغيرهما، تحتاج لسرد وشرح من ذوي الاختصاص، ومع ذلك يمكن القول وبكل إيجاز ممكن، إن الجهاد هو الذي يقوم بين دولتين من الدول أو بين مجموعة دول ضد مجموعة دول أُخرى، وأحيانًا يهدف إلى التوسع والهيمنة، أو للسيطرة على بعض الجزر والثروات وبعض المواقع المهمة، وهكذا. هذا معنى الجهاد بوجه عام.
بينما الجهاد في الإسلام لا يقوم إلا عند الاعتداء على الشعوب أو على الأوطان أو على العقيدة... الخ. ومع ذلك، ورغم أهمية الجهاد للدفاع عن ذلك، فإن الجهاد في الإسلام يحث أولًا على ممارسة الدبلوماسية والتخاطب مع المعتدين بالكلمة الحسنة وبالقيم والأخلاق مع التزام الصبر، إذ لا يجب مقابلة العَدَاء بعداء مماثل في البداية، ولكن إذا لم تتم الاستجابة بتلك الوسائل والصفات الإنسانية النبيلة، وقيام المُعتدين بقتل واضطهاد أبناء الوطن واستباحة الأرض والعرض، فإنه لا بد حينها من قيام الجهاد بكل الوسائل المتاحة، مع إعطاء الفرصة لمشاركة كل فئات المجتمع فيه دون استثناء، بمن فيهم النساء، بخاصة في جوانب التمريض ومعالجة المقاتلين، إضافة إلى أهمية الإعلام والمال وغير ذلك.. وفي نفس الوقت لا بُد أن يُسند أمر قيادة الجيش وقادة الألوية والكتائب في الميدان، إلى مَن تتوافر فيهم روح الإخلاص لوطنه وعقيدته، ويكون ذا خبرة ومعروفًا عنه الشجاعة والثقافة في الجوانب العسكرية، وتكون علاقته بجنوده في الميدان تقوم على الثقة والصراحة، وقناعتهم فيه وسخائه مع جنوده.. أما إذا كان الهدف ترضية فئة أو منطقة أو حتى دولة أو محاباة، أو ما شابه ذلك، فإن النتائج تظهر كما بات الجميع يعرفها اليوم! هذا هو الجهاد، بينما إذا كان الهدف مساعدة دولة أو شعوب أُخرى، بخاصة إذا كانت غير متجانسة، أو حتى من أجل قيادات أو نظام، ولو على حساب الوطن، فهذا لا يُعد جهادًا.
وبالنسبة للقضاء فالإسلام يقوم بجوهره على العدل الذي من شأنه ترسيخ الأمن والأمان والاستقرار لدى المجتمع، وبوجود العدل والأمن يؤديان حتمًا إلى ثقة الداخل والخارج، بخاصة ما يخص الجوانب الاستثمارية والتجارية... الخ.
وفي نفس الوقت لا يمكن أن يوجد العدل المقصود هنا، إلا بوجود قضاء عادل، فهو الذي بيده نشر العدل والمساواة، بخاصة عند التقاضي وإحقاق الحق، وهذا لن يوجد إلا حينما يكون القضاء مُستقلًا بحق، واختيار القضاة القادرين على العَطَاء ممن درسوا الشريعة والفقه الإسلامي بوجه خاص، ومشهود لهم بالاستقامة والجرأة والسمعة الحسنة والنزاهة، والثقة بالذات! وقد ورد عن الرسول صلَّى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة (فالذي في الجنة)، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة.. (بينما الاثنان اللذان في النار هما) رجل عرف الحق فلم يقضِ به وجَارَ في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار!))"، أو كما جاء بنص الحديث النبوي الشريف.
ليت شعري، إذا كان هذا في زمن الرسول صلَّى الله عليه وسلم، في الوقت الذي كان السفير بين الأرض والسماء "جبريل" موجودًا، فكيف هم قضاة اليوم؟! ودون التعميم؟! بخاصة قضاة ما يسمون بـ"أنصار أنفسهم"، والذين حولوا مهنة القضاء لتصفية حسابات سياسية وغيرها، وضد الفكر والكلمة الصادقة كما حدث مع كاتب هذه "الدردشة" ومع أمثاله، وهم كُثر؟!
أكرر أن الحديث عن بعض الجوانب التشريعية الدنيوية يحتاج لسرد شامل من ذوي الاختصاص، ولذا سأكتفي هنا بما قد قلته عن الجهاد والقضاء، لأتحدث بكل إيجاز ممكن عن السبب أو الدافع الأول لكتابة هذه "الدردشة"، وهو عن شهر رمضان المبارك باعتبار الصوم هو أحد التشريعات الإلهية السماوية، والذي هو أحد جوانب العبادات، فأقول إن المسلمين في كل زمان ومكان، يعيشون في أيام رمضان المبارك حياة روحانية بحق، إذ تتجلى أيام رمضان المبارك بهذه الروحانية في أجمل صُورها، ذلك أن الصوم يُعتبر بحد ذاته، مدرسة تربوية استثنائية، كونه يتعلق بغريزة الإنسان الأساسية، بجانب التعلم للكثير من الجوانب بما فيها التمسك بالصبر، والإيمان المطلق بالله والخضوع والامتثال له، بل الاعتراف بالضعف أمام الله، كون الصوم يُعتبر بمثابة تواصل مباشر بين الله وعبده، وكون الله وَحده هو المطلع على حقيقة صومه! فالصوم يُعد بمثابة تواصل بالطاعة والتقرب إلى الله والانقياد إليه، ولذا فإنه لا بد من سيطرة المسلم عند الصوم على غرائزه الأساسية، والتي منها الجوع والعطش، وإظهار قدرته وقوة إرادته وإيمانه واستعلائه على كل المغريات، إذ لا يحول أمامه دونها إلا قوة إيمانه وسمو نفسه، فـ"كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، أو كما جاء بنص الحديث القدسي.
أتذكر وأنا أسطر هذه الأحرف، أيام الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية وامتداد الصوم إلى قرابة 18 ساعة، وكانت الأيام في الصيف، وبعضنا كانت عنده محاضرات في الفترات الصباحية أيام شهر رمضان المبارك، وأنا أحدهم، فكم كان يشعر أحدنا وهو صائم وأمام مغريات غير عادية ومن كل الجوانب! بلذة استثنائية وهو صائم، بما في ذلك شعوره بكونه بصومه وطقوسه الخاصة يعيش كمسلم في عالمٍ خاص به! حتى إن بعض الزملاء اقترح يومها إحضار بعض رجال العِلم شبه المتشددين إلى أمريكا أو إلى غيرها من الدول الغربية، أيام شهر رمضان المبارك، لهدف اختبار إيمانه وقدرته على المقاومة أمام مغريات لا حاجة لذكرها هنا! وإن كان معظمنا لم يوافقه على اقتراحه لأسباب ليس هنا مكان شرحها!
والصوم بوجه عام أيضًا يؤدي إلى تهذيب النفس وتجنيد الروح والبدن معًا، وتطهير ذلك كله من الكلام البذيء والرفق والفسوق والجدال، والصوم هو وقاية من ذلك كله.
كذلك يُعتبر الصوم علاجًا لبعض الأمراض، ولأن "المِعدة بيت الداء"، فإنه لا بد من إعطائها فترة استراحة واستجمام، وتطهير البطن من السموم المتراكمة في الجسم، بخاصة مع كثرة السموم والمُبيدات التي باتت توضع اليوم بمختلف الأطعمة، لهدف الربح السريع! إضافة إلى تلوث البيئة وتزاحم العمران وفقدان المُتنفسات، خصوصًا في وطننا اليمني الذي بات الشعب يعيش فيه برحمة الله وَحده! والصوم هو الأنسب لتطهير الجسم والبدن من ذلك كله.
ثم، من الحكمة الإلهية في الصوم، التوحد الاجتماعي في أداء فريضة الصوم، إذ يتساوى كل المسلمين تقريبًا في أداء فريضة الصوم مهما كانت فوارق الزمان والمكان، فالكل عند الصوم سواسية تجمعهم معاناة الجوع والعطش، إضافة إلى تذكير الغني الصائم بالفقير الذي قد يصوم في غير رمضان لعدم وجود المال الذي يُمَكِّنه من شراء الطعام وغيره... الخ، مع خلق المزيد من ترابط القلوب وتآلف الأرواح وتَوحُّد بعض التوجهات والآراء العامة، وتوليد التعاطف والحنان والبر ببعض الفقراء والمساكين حتى ولو كان ذلك مؤقتًا!
فهذه بعض روحانيات أيام شهر رمضان المبارك، مع أن الحرص عليها والشعور بها بجانب الصوم عن الأكل والشراب وغيرهما، قد يقتضي الصوم عن الكتابة أيضًا، بخاصة في القضايا السياسية وبعض الهموم المحلية بالذات، إذ الخشية من التعرض لما قد يجرح الصوم أو يقلل من الشعور بمثل هذه الروحانيات وتجلياتها، وذلك هو ما كنتُ عقدتُ العزم عليه، لولا وجود سببين كما أشرتُ لذلك في مقدمة هذه "الدردشة"، بالذات السبب الذي تمثل ببعض الاتهامات من بعض القراء لمقالتي الأخيرة والخاصة بمخرجات الحِوار الوطني، فرأيتُ تسطير هذه المقالة الموجزة ولو كرد بصورة غير مباشرة ممن اتهمني بالعَلمنة، والمناطقية والغباء... الخ، متسائلًا هنا: هل يُوجد عَلْمَاني يحمل ثقافة إسلامية أيًا كان حجمها وضآلتها؟ أتطلع إلى الرد ممن اتهمنا بذلك، خصوصًا "ج.م" الذي أهدي له وأمثاله هذه الأحرف مع أو بلا تحية! متذكرًا في نهاية هذه الأحرف قول معشوقي "المتنبي":
"من الحِلم أن تَسْتَعمِلَ الجهلَ دونه
إذا اتسعت في الحِلم طُرْقُ المَظالِم"
و"اللهمَّ إني صائم"! وشهر مبارك على الجميع.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً