قليلة بل نادرة هي الرموز السياسية، التي حافظت على اتساق ناضج بين رؤاها ومواقفها، رغم كل الهزات الكبرى والصدمات العنيفة التي تعرضت لها في سنوات التكوين والنضج، وكان من الطبيعي أن توجه صاحبها إلى ما تشتهي الأهواء والرغائب وأفعال الضغوط التي تمارس عليه، وأحد تمثيلات هذه الندرة ونموذجها القريب المناضل والرمز الوطني الكبير علي صالح عباد "مقبل"، الذي غادرنا في الأول من مارس 2019، في صنعاء، بعد أن سطر سيرة عطرة فواحة في دفتر الأيام.
منذ انخراطه في العمل السياسي، مع تباشير الكفاح المسلح ضد المستعمر الإنجليزي في جنوب اليمن، جسَّد وعيًا واضحًا حيال القضية الوطنية والكوابح والمعيقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعطل بناء الدولة بأفقها الوطني الاجتماعي، بل صار هذا الوعي مع تراكم الخبرة والتجربة سلوكًا عامًا لم يلن أو ينكسر، حتى في أشد اللحظات عتمة ونكرانًا.
سنوات الاعتقال الطويلة، التي تجاوزت الخمس، بسبب قربه من الرئيس الراحل سالم ربيع علي "سالمين" الذي تمت تصفيته في صيف 1978، لم تضعفه، بل زادته صلابة وتمسكًا بالمشروع الوطني الكبير، ورأى في خصومات الرفاق، التي كانت تتحول إلى إزاحات دموية في أكثر من محطة، نوعًا من التدبير الخاطئ، المتوجب إعادة قراءته ونقده لإصلاح مساره.
كان من السهل على النظام، مع أشهر الوحدة الأولى، استقطاب عشرات الأسماء الوازنة، والتي تسببت سنوات الصراع في جنوب البلاد وشمالها، في حدوث تصدعات في مواقفها وقناعاتها السياسية والأيديولوجية، وبالفعل انضم إلى الحاكم عشرات ممن حُسبوا على الحزب والدولة في الجنوب، وعلى وجه الخصوص من كانت الضغائن تقطرهم، والمصالح توجههم إلى حيث ما تشتهي رغائبهم في التكسب وتصفية حسابات أجلوها لسنوات، وحده علي صالح عباد "مقبل " استعصى عليهم، فقد حاولوا العزف كثيرًا على موضوع ظلامة سجنه الطويلة، وعلى المشغلات المناطقية، التي صيرتها أحداث يناير عنوانًا للانقسام الدامي، في صفوف كوادر الحزب وقياداته، لكنه كان مقبل... الصلب والعنيد كما عهده الجميع من أصدقاء وخصوم.
صمد في وجه كل الإغراءات، وظل مؤمنًا بأن الحزب الاشتراكي اليمني وحده العنوان الكبير للمشروع الوطني في شمال البلاد وجنوبها، وهو الذي باستطاعته أن يكون رافعة التغيير والتحديث في البلد المنهك والمهتوك رغم حجم التآمر الكبير والكبير جدًا عليه من عصبة الحكم التاريخية، والتي كانت ترى في مشروع الحزب الوطني والاجتماعي معيقًا حقيقيًا في طريق إدامة سلطتها بتوسل التخلف.
في انتخابات أبريل 1993 صعد مقبل على قائمة الحزب الاشتراكي عن إحدى دوائر محافظة أبين، وصار تاليًا نائبًا لرئيس المجلس الذي ترأسه عبدالله بن حسين الأحمر (مرشح الإصلاح والمؤتمر)، في وقت كان تحالف الضغائن الذي ينتمي إليه الأحمر، يعد عدته للانقضاض على الحزب، وعلى مرموزه الجغرافي وعمقه في المحافظات الجنوبية. لم يلن مقبل أو يضعف في جو مشحون، ومشبَّع بلغة التخوين والتكفير، التي قادها رموز الإسلام السياسي النابت في جسم النظام، والذي جال أقطابه (الزنداني وصعتر والديلمي وغيرهم) في المعسكرات للتحريض على قتال الحزب واستباحة الجنوب.
حطت الحرب أثقالها في يوليو 1994، فخرجت البلاد مشروخة، والحزب الذي كان يمثل أمل الناس منكسرًا وعاريًا أيضًا، جردته ضباع التخلف التاريخي، التي صارت تحالف حرب استباح الجغرافية ومقدراتها، من كل ما يملك، لكنها لم تستطع تجريد القائد مقبل ورفاقه الصامدين من إيمانهم الصلب بقوة الحزب، حتى وهو في لحظة انكساره العظمى.
أعاد لملمة الحزب بعد أن تكاثرت سكاكين قوى الإعاقة التاريخية حول عنقه، وفي أشهر أعاد بناء هياكله، وبدون أية إمكانيات، ظن الكثيرون أن مقبل ورفاقه صاروا رهن المنتصر وبمشيئته يتحركون، لتلميع صورة الحاكم، بأن يبقوا الحزب "غير الانفصالي" جزءًا من ديكور السلطة، التي صارت تسوق نفسها في الخارج كديمقراطية ناشئة، تتعايش فيها القوى السياسية، في ظل نظام متعدد لم تقده الحرب إلى ديكتاتورية الفرد، لكن هيهات!
رويدًا رويدًا بدأ الحزب في التعافي، وتعلم الدرس الأبلغ، وهو كيف يكون حيًا خارج السلطة والدولة، التي ترعرع في أحضانها لسنوات طويلة؟! في هذه الفترة بدأ الغبار ينقشع عن المعادن، فظهر الصدئ والمضروب والزائف، وظهر أيضًا النفيس منها، الذي جعل من الحزب "عنقاء" جديدة في الوعي، الذي بدأ يتعامل مع نتائج الحرب ومآلاتها، كمحطة يتوجب إعادة تجاوزها بالفحص والنقد.
كان مقبل أصلب مما يتصورون، وقائدًا محنكًا، بمقدوره إدارة كل التناقضات بوعي وطني شديد الوضوح.. فالقضية الجنوبية في تمهيداتها الأولى لم تكن سوى واحدة من مخرجات حرب الاستباحة، التي عملت على تجريد الجنوب من إرثه الثقافي والاجتماعي، باعتبارها إرثًا للحزب المهزوم. فكان يتعامل حاملو ألويتها في قيادة الحزب وطروحاتهم، في مستهل تعافي الحزب الأول، بكثير من الدهاء السياسي، الذي يعمل على منع انقسام الحزب وتذرره، كما كانت ترغب بذلك السلطة العمياء المتعجرفة.
تعامل مع فكرة التحالفات السياسية، في إطار مجلس التنسيق لأحزاب المعارضة ابتداء من العام 1996، ومن ثم اللقاء المشترك في هندسته الأولى مطلع الألفية، بكثير من الوعي السياسي، القادر على إعادة الحزب إلى واجهة العمل السياسي كحزب مدني بلا جيش ولا موارد، لكنه مشبع بأمل الناس.
بعد أحد عشر عامًا تمامًا من كارثة حرب صيف 94، تخلى علي صالح عباد "مقبل" عن قيادة الحزب في مؤتمره الخامس، الذي انعقد في يوليو 2005، وتضمن بيانه الختامي هذه الفقرات:
وأكد المؤتمرون أن الحزب «تحت قيادة الرفيق (مقبل) قد نجح في توحيد صفوفه، وحماية نهجه السياسي الوطني التقدمي، كحزب تجذر دوره تاريخيا كحامل للواء الحداثة والمدنية، ومتصدر للمشروع الوطني الديمقراطي الوحدوي ومدافع عن حقوق الشعب وقضاياه وحرياته».
وعبَّر المؤتمرون عن اعتزاز الحزب الاشتراكي اليمني بالأخ علي صالح عباد (مقبل) وعن تقديرهم العالي لما تحلى به من وطنية صادقة ومبدئية رفيعة، وتماسك نفسي وأخلاقي «عبرت عن نفسها بصورة ناصعة من صور الأداء السياسي الشجاع الذي أكسب الحزب حب وتقدير جماهير الشعب واحترام مختلف القوى السياسية في الداخل والخارج».
ولما يقرب من عقدين من الزمن، بقي مقبل أبًا روحيًا للحزب المكافح، وبذات الشجاعة ظل يصارع أمراضه الكثيرة والمزمنة، وحين قال بعض رموز الحكم، وهو على فراش الموت، إنهم يرغبون بمداواته، قال كلمته الخالدة: "من الأولى أن تعالجوا اليمن، من أمراضها وجروحها التي تسببتم بها".
إنه مقبل رمزًا جبارًا للسوية السياسية والوطنية، وستنتظر البلاد طويلًا حتى يجود الزمن بمقبل جديد.