على أنقاض ملهى شاليمار العريق المجاور لسينما ريجال العريقة أيضًا، وهما يتبعان أكبر رجال الأعمال في عدن بيكاجي قهوجي، ابن قهوجي دنشو الأشهر "إيدن والا"، يعني صاحب عدن، أو كما لقب ملك عدن غير المتوج، وسليل العائلة الفارسية الأصيلة التي رفضت التخلي عن دينها الزراديتشي، ونزحت مع ملايين من أتباع المجوسية أو المزدكية، أقدم الأديان المعروفة قبل الأديان الإبراهيمية، لتستقر في الهند الكبرى، موئل الأديان والطوائف واللغات،
ومنهم نزح إلى عدن مبكرًا آل بيكاجي قهوجي دنشو (صور لبعض مآثرهم عندنا هنا)، ومع كثرة أملاك آل دنشو: سينما ريجال وملهى شاليمار الذي نحن بصدد الحديث عما حل به، حيث بني مكانه في نفس الموقع ما سمي الكازينو.. بدون إضافة تحديد كما يقال في البلدان الأخرى للتعريف بالقول: كازينو كذا أو كذا.. اكتفى مديره اللبناني بالاسم العام "الكازينو" كما ترون في الصور التي أعرضها هنا.
ولأنني بين شلة أصحابي صاحب فضول شديد لازمني منذ طفولة الدهشة الأولى التي يراها أي مولود في حياته.. كنا في نصف ستينيات القرن الماضي، شلة من السيد عمر الرخم وحسن علي عمر رئيس مجلة الغد، وصهره مديرها عتيق سكاريب، وأنا معهم الفضولي صاحب المقترح.. مادام الكازينو قد فتح في بلادنا، ومادمنا أحياء وقادرين على السير، فلماذا لا ندخله، ولو من باب الفضول، لنستمتع بالحدث التاريخي في حياتنا.. وتدارسنا في التكاليف المطلوبة ليستعد كل منا بالفلوس اللازمة لكيلا تختم السهرة بغسلنا للأطباق!
على باب الدخول حارس مهندم في دريس أبيض في أبيض، وعلى رأسه عمامة حمراء، وبيده عصا غليظة سوداء اللون طولها ذراع، فدلفنا للداخل، ودفعنا رسوم الدخول، ودلونا على مائدة جلوس قريبة من حلبة الرقص في صحن المبنى الكامل التكييف، والذي تحف به الأضواء الملونة من كل الجوانب.. ولفت نظرنا الجمال البارع في لباس ومكياج المرأة الجالسة على "المغل"، أي كاشيير الدخول.. كانت فعلًا جميلة بصورة استثنائية، لدرجة رؤيتي على وجناتها نجيمات لامعة تبرق بانعكاس الأضواء عليها.. هي لا شك بفعل المكياج الذي كان جديدًا علينا.. بدا المكان مليئًا بالرواد، وجلهم أجانب أو من علية القوم في عدن، شوهد فيهم الأستاذ الشاعر لطفي أمان، والمذيع باجنيد والماس وإبراهيم روبلة والصعيدي والأستاذ حسين الصافي، وغيرهم ممن غيبتهم الذاكرة.. طلبنا بعض المرطبات والمشاريب، وجاؤوا لنا بمنيو الطعام في عدة نسخ.. أنا بصراحة ما أعرفش أسامي المأكولات اللي يكتبوها، واعتمدت على الطلب شفهيًا، أما سكاريب فحاول التفاصح، وأشر للجرسون على اسم وجبة لا ندري ما هي، وسألناه قال لما تجي باتشوفوها!
على صوت المزيكة توالم الكثير من الجلوس ممن يصطحبون نسوانهم أو صديقاتهم للرقص في الحلبة، وتبين لي بين الراقصين الصافي وواحدة وأمان وأخرى يرقصون تشا تشا تشا كما قيل..
ونزلت أطباق العشاء، كان طلبي ربع دجاج محمر ومرقة دجاج، وبالمثل عمر الرخم، وحسن طلب كباب، وعتيق قام لتصوير الحرمة اللي ع الكاشيير، والتي اتضح أيضًا أنها الراقصة صاحبة النمرة الكبرى في الرقص.. ورجع عتيق ليجلس للعشاء الذي اكتشف أنه صانونة مع كرات لحم مكبكب، لكن الصوص حقه كان حالي ومسكر ع الآخر.. لكنه اتكعفه.. أما شربة الدجاج عندي فكانت آخر مفخرة وتقول إلا لبنية!
في الساعة 12 بالليل طنطنت المزيكة إيذانًا بنمرة القمة للرقاصة اللي خرجت من خلف الكونتر حق المغل والحساب، ومرت بجنبنا، وتحية للصورة اللي لقطها لها عتيق انحنت تحيينا وروايح العطور من بدلتها وجسمها تعبق وتعصف بالمكان عصفًا.. ونزلت الحلبة مع ضجيج دقات الطبول والدفوف.. ورقصت الحبوبة اللبنانية وسط الحلبة رقصًا شرقيًا لم تعهده عدن منذ نجمة شاليمار كريستينا اللي أحبها أحمد قاسم!
المهم جزعنا ليلة كازوناتية عدنية كلفت الواحد منا في حدود ستة دنانير من الفلوس.. وعمار يا عدن.. يا أم المدائن.