في مساء الاربعاء، داخل غرفة العناية المركزة بأحد مستشفيات العاصمة الأردنية عمان، أُسدلت الستائر على فصل جديد من المأساة اليمنية، حين فارقت والدة الناشطة المدنية والمحتجزة لدى الحوثيين، رباب المضواحي، الحياة.
لم يكن المرض وحده من أسقطها، بل كانت الحسرة، ذلك الألم الذي امتصها ببطء منذ اختطاف ابنتها في يونيو الماضي، رئيسة قسم المعلومات في المعهد الديمقراطي الأميركي (NDI) بصنعاء. لقد ماتت وهي تنتظر، كما ماتت أمهات أخريات في رحلة الانتظار المريرة، حيث تسبق الدموع اللقاء، ويسبق الفراق الحرية.
لم تكن والدة رباب الوحيدة التي رحلت بحسرتها، فقد سبقتها اربع أمهات أخريات، كلهن كن يحملن نفس الألم، كلهن كنّ يحلمن بلحظة لقاء لم تأتِ أبداً.
خلال الاشهر الأخيرة، توفيت والدة مراد ظافر، وهو موظف مختطف لدى الحوثيين، بعد صراع مع المرض الذي تفاقم جراء حزنها العميق وقلقها المستمر على مصير ابنها. وعلى نفس المسار، رحلت والدة سارة الفائق، التي كانت تأمل في احتضان ابنتها مرة أخرى، لكن الوقت لم يمهلها، واختُطف منها الفرح قبل أن يكتمل. أما والدة سميرة بلح، فقد ودّعت الحياة بقلب مثقل بالحزن، تاركة وراءها نداءً صامتًا للعالم لإنقاذ ابنتها المحتجزة دون ذنب.
وفي وقت سابق، توفيت والدة عبدالمعين عزان، الموظف في المفوضية السامية لحقوق الإنسان بصنعاء، بعد تعرضها لعدة جلطات أثناء انتظارها خروج ابنها الذي اختُطف بتاريخ 5 نوفمبر 2021؛ إذ رفضت جماعة الحوثي السماح لعبدالمعين بالخروج يومًا واحدًا لوداع والدته.
ولم تقتصر هذه المآسي على الأمهات فقط، بل امتدت إلى الآباء أيضاً؛ فقد توفي والد محمد الشامي، أحد المحتجزين، دون أن يتمكن من رؤية ابنه للمرة الأخيرة. في كل مرة كان يطرق قلبه الخوف على ابنه، كان يجد نفسه عاجزاً أمام جدران صامتة وأسوار باردة، لا تحمل إجابات سوى الألم.
كما أن معاناة المحتجزين أنفسهم لا تقل قسوة، حيث فقد العديد منهم حياتهم داخل السجون الحوثية، آخرهم أحمد باعلوي، الموظف في برنامج الأغذية العالمي، الذي توفي في أحد معتقلات صعدة بعد شهور من الاحتجاز التعسفي. سبقه هشام الحكيمي، وغيرهم ممن أزهقت أرواحهم بصمت، بينما العالم ينظر بلا حراك.
في هذا السياق، علّقت أمة السلام الحاج، رئيسة رابطة أمهات المختطفين، على رحيل والدة المضواحي بمرارة قائلة: "إنصاف الأمهات قبل إنصاف المختطفين، السلام يبدأ من قلوب الأمهات... #الحوثي يقتل الأمهات."
وفي تعليق سابق على وفاة باعلوي داخل السجون الحوثية، شددت الحاج: "التلاعب بقضية المختطفين من قبل جماعة الحوثي لا يعفيها من المسؤولية، والطريقة المكشوفة لذكر (الحوثيين) قضية قحطان تهدف للتغطية على قضية النسيم وأحمد باعلوي."
هذه القصص ليست مجرد حكايات عابرة، إنها صرخة إنسانية تستغيث بالضمير العالمي، لكنها تُقابل بصمت مدوٍّ من المنظمات الدولية، التي تكتفي بالتنديد دون اتخاذ إجراءات حقيقية لحماية موظفيها وإنقاذهم من المصير المجهول.
صمت المنظمات واتهامها بالتقصير
يرى الناشطون أن المسؤولية لا تقع على عاتق جماعة الحوثيين وحدها، بل تمتد إلى الجهات الدولية التي تتقاعس عن حماية موظفيها. ويؤكد عدنان الشهاب:
"لماذا تركوا موظفيهم فريسة للمليشيات؟ إذا كانوا صادقين في مهمتهم، فلن تتردد المنظمات في تعليق عملها في المناطق الخطرة أو نقل مكاتبها إلى مناطق آمنة مثل عدن."
وأضاف رياض الدبعي: "تجاهل المنظمات لاحتياجات موظفيها يجعلهم عرضة للمخاطر، وهذا التقاعس يُعد شراكة في الجريمة مع المعتدين."
وتتداخل هذه الأصوات مع تصريحات المحامين المكلفين بمتابعة قضايا المختطفين، حيث أكد المحامي عبدالمجيد صبرة في تصريحاته السابقة للنداء، أن كل حادث وفاة أو إساءة معاملة تزيد من حالة الرعب والضغط النفسي على عائلات المحتجزين. وفقًا له، فإن "كل خبر عن وفاة موظف أو معاناة أحد المختطفين يعيد إلى الواجهة واقعًا مريرًا من التعذيب والإهمال، مما يجعل العائلات تعيش في ترقب دائم وخوف من فقدان المزيد من أحبائهم."
بينما تتوالى الأخبار عن وفيات الأمهات والآباء والمختطفين، يبقى السؤال المرعب: من التالي؟ هل سننتظر حتى تمتلئ القبور قبل أن يتحرك الضمير العالمي؟ أم أن هذه القصص ستبقى مجرد أرقام في تقارير المنظمات التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، لكنها عاجزة عن حماية موظفيها؟، حسبما يشير الناشط رياض الدبعي.
في اليمن، لا يُعاقب الضحايا فقط، بل تعاقب حتى أمهاتهم وأسرهم، وبدلاً من أن يحظوا بالحرية، يحظون بوداع لم يسمح لهم حتى بحضوره.