عندما كان رئيس فريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الشهيد الدكتور أحمد شرف الدين، ممثلًا لحركة أنصار الله، جذب انتباه كل الأحزاب الوطنية بطرحه الدولة المدنية بقوة؛ فقد صرح بأن فريق بناء الدولة بصدد وضع أسس لبناء دولة مدنية يغيب عنها الخطاب الديني، وتستفيد بأفضل ما في دساتير العالم المتقدم.
وعلل ذلك بأن المسلمين قد جربوا الدولة الدينية لمئات السنين؛ وكان الحاكم يفرض مذهبه على جميع المذاهب والطوائف الدينية؛ ولكي نبني دولة مدنية فلا يجوز أن ننص في الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر جميع التشريعات؛ لأن معنى ذلك أنها تكون حاكمة للدستور أيضًا، وحينها يكون الفقيه هو أعلى من الدستور، وذلك لأن المسائل الفقهية مختلف فيها، وبخاصة في مجال المعاملات.
وبما أن هناك فرقًا بين الدولة الدينية، وهي دولة المفتي، وبين الدولة المدنية، وهي دولة الشعب؛ فالدولة الدينية تعرف بأنها كيان ديني يُدار وفقًا لمبادئ دينية معينة، إذ يُعتبر الدين هو المصدر الأساسي للتشريع والسياسة. إيران نموذجًا واضحًا للدولة الدينية، حيث ينص دستورها بأن المذهب الاثني عشري هو الدين الرسمي للدولة، مما يعكس طابعًا طائفيًا واضحًا. يُعزز هذا النظام سلطة رجال الدين، إذ يُعين المرشد الأعلى رئيس الجمهورية، مما يحدد مسار السياسات العامة بناءً على الأُطر الدينية.
تُظهر هذه الدولة خصائص كهنوتية، إذ يُستمد الحكم من سلطة دينية تتجاوز الإرادة الشعبية. يُعتبر الدستور الإيراني مثالًا على ذلك، إذ ينص على أن "الدين الرسمي هو المذهب الجعفري الاثني عشري"، مما يجعل من الصعب التغيير أو التعديل في هذا السياق. وهذا يُشير إلى عدم وجود توازن بين مختلف الطوائف أو الأديان، مما يُعزز الفجوة بين المواطنين.
وعلى النقيض من الدولة الدينية، فالدولة المدنية تعتبر شخصًا معنويًا الدولة وكيانًا سياسيًا يرتكز على مبادئ المواطنة والمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم. وقد تأسست دولة المدينة في عهد الرسول الكريم كنموذج يحتذى به، حيث ساوت الصحيفة بين اليهود والمؤمنين والمشركين في الحقوق والواجبات، وجعلت من المواطنين بمختلف أعراقهم وأديانهم أمة واحدة، مما يُعزز من فكرة المواطنة المتساوية.
وقد أثبتت الدولة المدنية نجاحًا باهرًا، وأصبح أربعة أخماس دول الكرة الأرضية تحكمها دول مدنية؛ إذ تُعتبر الدولة المدنية ضرورية في تحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي، إذ تفصل الدين عن السياسة، مما يسمح بوجود تنوع ثقافي وديني ضمن إطار واحد. إن القيم التي تحكم الدولة المدنية ترتكز على مبادئ العدالة والحرية، مما يُعزز قدرة المجتمع على التطور والنمو.
وهناك دول وافقت بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وتُعتبر الكويت نموذجًا فريدًا في منطقة الخليج العربي لهذا التوفيق، حيث تجمع الكويت بين الهوية الدينية والهويات المدنية. ومع ذلك، فإن التحديات التي تواجه التعايش السلمي بين هذه الهويات تستدعي النظر في تجارب دول أخرى، للاستفادة منها في تعزيز القيم المدنية والدينية بشكل متوازن.
تمتاز الكويت بتنوع ديني وثقافي، حيث تعيش فيها فئات عرقية ودينية متعددة. ومع ذلك، فإن الدين يلعب دورًا محوريًا في الهوية الوطنية، مما يؤدي أحيانًا إلى صراعات بين الهويات المختلفة. إن تعزيز الهوية المدنية التي تُعزز حقوق المواطنة والمساواة بين جميع الأفراد، يُعتبر أمرًا حيويًا.
كما أن هناك دولًا استطاعت ان تحقق التعددية السياسية، وتُعتبر كندا نموذجًا يُحتذى به في التعددية الثقافية، حيث تُعزز الحكومة من قيم التسامح والاحترام. تُظهر الدراسات أن السياسات الكندية أسهمت في تقليل التوترات وتحسين التماسك الاجتماعي. يمكن للكويت الاستفادة من هذا النموذج من خلال تطبيق سياسات تعزز حقوق جميع المواطنين، بما في ذلك الأقليات.
كما تعتبر ماليزيا مثالًا ناجحًا في إدارة التنوع الديني والعرقي. تُظهر الأبحاث أن التعاون بين المجموعات المختلفة ساعد في تعزيز الاستقرار السياسي. يمكن للكويت أن تتبنى سياسات مشابهة، تركز على الحوار والتفاهم بين الطوائف المختلفة.
وتجربة سويسرا في الديمقراطية المباشرة تُعتبر نموذجًا يُظهر كيف يمكن للمشاركة الفعالة من المواطنين أن تُعزز الهوية الوطنية. تُظهر الدراسات أن هذه المشاركة خففت من التوترات بين المجموعات المختلفة. يمكن للكويت تعزيز المشاركة السياسية لجميع المواطنين، مما يُسهم في بناء هوية وطنية مشتركة.
كما أن الدراسات المقارنة أظهرت أن الدول التي تتمتع بنموذج إدارة ناجح للتنوع، مثل كندا وماليزيا وسويسرا، تواجه مستويات أقل من التوترات الاجتماعية. على سبيل المثال، دراسة حول كندا توضح كيف ساعدت السياسات المتعددة الثقافات في تحقيق التوازن بين الحقوق الفردية والهويات الجماعية.
وفي جنوب إفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، وضعت دستورًا يُعزز حقوق جميع المواطنين، مما أسهم في بناء هوية وطنية مشتركة. تُظهر الأبحاث أن التركيز على الحقوق المدنية والمساواة ساعد في تعزيز الاستقرار الاجتماعي، مما يُعد درسًا مهمًا للكويت.
وهذا يتطلب من الدول التي توفق بين الهويتين التركيز على مفهوم المواطنة الذي يُعزز حقوق جميع الأفراد، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية. يجب تشجيع الحوار بين الطوائف المختلفة، لتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل، وإدراج مناهج تعليمية تُعزز قيم التعايش السلمي في المدارس.
إن التوفيق بين الهوية الدينية والهوية المدنية في الكويت يتطلب جهودًا مشتركة من الحكومة والمجتمع. من خلال الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، يمكن تعزيز القيم المدنية والدينية بشكل متوازن، مما يُسهم في بناء مجتمع أكثر استقرارًا وتماسكًا.
إن الصراع بين الدولة الدينية والدولة المدنية يمثل تحديًا مستمرًا في المجتمعات المعاصرة. وكما يظهر من التحليل أعلاه، فإن الدول التي تعتمد على هياكل دينية غالبًا ما تواجه صراعات داخلية وخارجية نتيجة للتوجهات الطائفية. وفي المقابل، توفر الدولة المدنية مساحة للتنوع والاحترام المتبادل، مما يُعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
لذا، فإن الفهم الواضح لهذه الاختلافات يُعتبر أمرًا حيويًا في معالجة التحديات التي تواجه المجتمعات اليوم، بخاصة في ظل الصراعات الأصولية التي تعصف بالشرق الأوسط.