دأبت الولايات المتحدة على التعبير عن عدم رضاها عن سياسة مصر إزاء القضية الفلسطينية، بتجنب وزراء خارجيتها في معظم جولاتهم في المنطقة زيارة القاهرة، وكأن مصر لا تحادد غزة، وغير مهتمة بقضية فلسطين، وأن دولة أخرى قد حلت محلها جغرافيًا. بهذا السلوك تُعاقَب مصر على عدم سيرها في الطريق الأمريكي لإفناء قضية فلسطين. ومنذ عدة سنوات تبدي واشنطن اهتمامًا أكبر بدول أخرى دورها في القضية الفلسطينية غير محوري وغير مقبول للفلسطينيين.
بعيد طوفان الأقصى، وصف مندوب عربي في الأمم المتحدة الطوفان بالإرهاب، وببساطة نزع عن الفلسطينيين حقهم المشروع في مقاومة الاحتلال، وفي الوقت ذاته تجاهل ما قاله سكرتير عام الأمم المتحدة جوتيرتش، في جملة قصيرة معبرة، هي أن طوفان الأقصى لم يأتِ من فراغ.
تعي واشنطن أن أي جهد تقوم به لخدمة الغايات النهائية للكيان الصهيوني، لن يكتب له النجاح إلا إذا كسرت ظهر مصر، وقفز ت على دورها ومصالحها. وزير الخارجية الجديد ماركو روبيرو لن يزور القاهرة حتى من قبيل المجاملة ردًا على زيارة وزير خارجية مصر لواشنطن في العاشر من هذا الشهر، في إطار جولته الحالية، ولن يزور أيضًا عمّان، والسبب رفض البلدين تصفية قضية فلسطين بالتطهير العرقي والتهجير القسري، وتحويل قضية فلسطين إلى مشروع سياحي مربح للشركات الأمريكية والإسرائيلية. هذا في الظاهر، أما في الواقع فأمريكا وإسرائيل يريان في غزة كنوزًا اقتصادية وموقعًا استراتيجيًا له علاقة بمشروع الحزام والطريق الصيني، وإضعاف دور قناة السويس بإنشاء قناة بن جوريون المنافسة لها، وأنه بدون غزة سيفشل الطريق التجاري للربط بين الهند وإسرائيل وإيطاليا وأمريكا.
من جهة ثانية، لقد تعودنا أن أي زائر لدولة الاحتلال والإبادة الجماعية يزور رام الله، ويلتقي رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ومما هو معلوم حتى الآن أن روبيرو لن يزور رام الله، رغم إرضاء الرئيس عباس لإسرائيل وأمريكا بوقف صرف مرتبات أسر الشهداء -المقاومين، لأن الشهيد لدى إسرائيل وشقيقتها أمريكا إرهابي، ويجب عقاب أسرته، وحرمانها من الرعاية، وألا يذكر اسمه بهذه الصفة التمجيدية التي قد تشجع آخرين على الاستشهاد، أي مقاومة الاحتلال.
أمريكا وإسرائيل لن تقبلا إلا استسلامًا عربيًا شاملًا، ونسيان كل ما قاله العرب منذ ١٩٤٥ عن فلسطين، ولم يلتزموا به، ومنه المبادرة العربية للسلام عام ٢٠٠٢، التي انتهكتها أربع دول عربية.
أمريكا تريد من مصر أن تقبل وجودها العسكري وغير العسكري على حدودها، وأن تصبح دولة شرق أوسطية من خلال مشروع الريفييرا، القناع الذي يخفي الأهداف الرئيسية، وهي استراتيجية واقتصادية، لأن العالم لا يفتقر إلى شواطئ وبحار يتنزه فيها.
مصر تربط قدرها ومصيرها واستقرارها وأمنها بقيام كيان فلسطيني مستقل يكون حاجزًا بينها وبين دولة الاحتلال المفتوحة الشهية للتوسع الاستعماري. وإذا ابتلعت أمريكا غزة نيابة عن إسرائيل أو بالشراكة معها، فلن يصعب عليهما الاختراق التدريجي الصبور لمصر والشروع في تقسيمها.
مصر هي كتلة المقاومة العربية الصلبة في وجه مخططات تفكيك المنطقة العربية، وعلى العرب أن ينصتوا لها، وأن يدعموها ماليًا وسياسيًا، ولا يسمحوا للضغوط الأمريكية أن تحقق غاياتها الخبيثة في مصر وغير مصر، لأن حبل أمريكا وإسرائيل سيطوق رقاب الجميع حتى الخنق، وبدون استثناء لأحد.