سؤال اللحظة وماذا بعد؟ ومتى نرى الدخان الأبيض يتصاعد؟ متى يزول الاحتقان، ونشهد انفراجات على كافة الأصعدة، حيث ماتزال أمورنا دائرة ضمن حلقات مفرغة... فهل يا ترى تقتنص الأطراف كافة الحالة التي أشار إليها المبعوث الأممي لبلادنا، والذي ظل هو ذاته يتمرجح ضمن حلقات مفرغة من الإحاطات... هانز جروندبرج في آخر إحاطاته لمجلس الأمن، يشير لوجود تطورات إيجابية على الصعيد العالمي... لعله يقصد عمدًا أو يحاول تدوير الزوايا ولفت الانتباه نحو مستجدات أحدثتها رجات ترامب الكهرومغناطيسية لحالة الكياسة السياسية دفعًا بها نحو مربع حلبة المصارعة والمفاجآت من النوع المثير وغير المتوقع أمريكا أولًا، والباقي عبارة عن مربعات للمزيد من فرض رسوم الجمارك وفرص الاستثمار، والشاطر يقتنص الفرصة.
لقد صبر شعبنا كثيرًا، والصبر لا يدوم للأبد.. فهي غزة ما عادت غزة، الدماء باتت تحديات وعناوين مواجهة وشهداء لشعب له أرض ووطن، ولعل غزة أدخلت ترامب حالة الجنون، فالظلم لا يدوم أمام من يعرف قيمة اللحظة التي يكون معها القرار الفريد، وصنعت طوفانًا أيقظ الضمير العالمي.
المبعوث الأممي لاحظ ثمة برومثيوس عالميًا جديدًا ينتفض من تحت أنقاض غزة، صنعه برومثيوس الفلسطيني، ضمن صياغة للوحة، تقول بالبنط العريض: لا التهجير... لن نهجر أرضنا... وبها نعيش ونموت... لعل المبعوث بعد إخفاقات سنوات طوال، وجد منجاته بما أحدثه طوفان غزة من تغيرات، حيث بات عالم بكامله يعيد قراءة السياسة خارج عدسات غطرسة ترامب... عالم بكامله وبقواه ذات التأثير على عوالم السياسة والاقتصاد وما بينهما.
ولعل من أهم ما بنى عليه المبعوث تفاؤله هو حالة الرفض العربي القوي... موقف مصر الحازم الرافض، موقف الرفض السعودي القوي المفاجئ لأمريكا، وهي حالة تشير لذوي العقل اللبيب لدينا، إن كان ثمة عقل لبيب، بالإشارة يفهم ويدرك أن ثمة متغيرات جديدة تتطلب إعادة قراءة ما هو جارٍ حاليًا على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، بعقلية تعيد وزن الأمور وتجييرها لصالح الوطن وصالح الشعب اليمني، لصالح الوطن المدمر والشعب المنهك. وهنا نقول ما يلي، ونحن تطرح سؤالنا: متى يصحو من بيدهم زمام الحرب والصراع داخل بلادنا، سواء من انقلبوا على الدولة ومشروعها المنجز عبر الحوار الوطني، أو عبر ما أصاب الشرعية من وهن وإشكالات، لعل الكل يدرك ما تعنيه الإشكالات التي أضعفت كثيرًا بل كثيرًا جدًا ما كان على الشرعية من مهام تتطلبها حالة ما بعد الانقلاب وحتى الآن.
وهنا نود الإشارة إلى أن الأوان قد آن للخروج من نفق الحرب والدمار، فالعالم ها هو يتحرك لمغادرة ساحات المواجهات والحروب إلى ساحة المصالح وتسوية الصراعات والحروب، حيث قد انتهى زمن غياب أو تغيب الحقيقة أو تغييبها عبر تغليب عنصري القوة والغطرسة، قد عاد العقل الفاعل دوليًا، وبضمنه العقل العربي الذي ظل مغيبًا ردحًا من الزمن حتى أيقظه الطوفان؛ طوفان غزة الذي عبره رأت غزة بعد عقود من السنين تحت الاحتلال والضياع، أنها تملك إرادة التحدي، فإما مواجهة أسنة اللهب والإبادة، وإما اعتلاء المجد فوق أقصى النجوم، وقد كان، إذ بدأ العالم يعود لعالم السياسة بديلًا عن عالم القوة وابتزاز السياسات الصهيوأمريكية... بات الكل يسعى حفاظًا على مصالحه لإطفاء نيران المواجهات والحرائق الجيوسياسية.. بلادنا ليست بعيدة عن ذلك الأمر بتاتًا.
كيف نقتنص الفرصة؟ سؤال اللحظة نطرحه على من انقلب على السياسة أولًا، وانقلب على الدولة ثانيًا، وفرض واقعًا كل عناوينه تشير للحرب، وتلك كانت الطامة التي قصمت ظهر البعير، عفوًا اقصد ظهر الوطن المثخن بالجراح من مفاعيل كانت عناوينها سيئة جدًا على المواطن والوطن والسياسة والاقتصاد، بدءًا من انقلاب 5 نوفمبر 68، ومرورًا بجهنمية 13 يناير 86، وبعدها كارثة حرب 94 التي قادتها قوى التطرف، وانتهاءً بما سموه ثورات الربيع الذي قوض مشروع الدولة الوطنية عربيًا، وآخرها ما تسمى ثورة 21 سبتمبر الكارثية!
وكما أشرت على الشرعية مغادرة حالة الوجود الاسمي إلى وجود فاعل، ولذلك متطلبات أهمها على الإطلاق وحدة الصف، أمامها ركام من المشكلات من أول وضعنا كدولة ضمن مفاعيل الفصل السابع، مضافًا إليه ما تراكم من جبل من مشكلات يعتصر لهولها شعبنا ألمًا وحسرة.
أقول الإرث ثقيل وتبعاته أكثر ثقلًا ودمارًا على كافة الصعد السياسية، ممثلًا بغياب الدولة، وحالة اقتصادية مهددة بالانهيار الكامل، لعل مقدماته تتمثل بالانهيار المتتالي لقيمة العملة الوطنية، إلى جانب قضايا جوهرية أخرى بضمنها غياب منظومة الأمن بكل معانيه وقوانينه وقواعده وآليات عمله.
لكل ما سبق ذكره، فإن مصلحة بلادنا تتطلب عدم تفويت ما يلوح من آفاق ومناخات دولية يمكن اقتناصها لمغادرة حالة التوهان والدوران داخل دوائر حلقة مفرغة حماية لمصالح الأجيال القادمة أولًا... وثانيًا تأتي ضرورة استعادة الدولة لها دور ووجود... ثالثًا كفى ضياعًا ونزوحًا، كفى هدرًا للوقت والموارد، الحالة تتطلب، وعلى وجه السرعة، تفاهمات تحقق استقرارًا، وتحقق أمنًا وتنمية متعددة الأوجه... كلنا مدعوون للخروج من حالة الموت البطيء التي بها نمر جميعًا... لكل ذلك نقول لا تدعو الفرصة تمر علينا مرور الكرام... الذكي من يقتنص الفرصة، أن يغتنمها إن هبت رياح مواتية، ولا أعتقد أن رياحًا مواتية أكثر من كون العالم يتجه نحو مرحلة تواجه غطرسة القوة والحروب... دعونا من فبركات ما سموها صياغة شرق أوسط أرعن جديد... وما يحزنون. الناس أدركت أن كياناتهم، بل حياتهم ووجودهم بات مستهدفًا من الوجود، وذلك كان مدعاة ليقظة طال انتظارها عربيًا، وحان قطاف ثمارها، ونحن أهل اليمن أكثر مدعاة كي نعيد قراءة المشهد، وبما يحقق مصالح شعبنا... نعم قالها ملك الأردن بأنه سيعمل بما يحقق مصالح شعبه وبلده... وغزة وشعبها ولعبقريتها نرفع التحية، وما صنعته غزة يحتاج من العرب نهضة ووقفة تؤكد على وجود ما يلي: أولًا دول قوية متماسكة تحترم إرادات شعبها، وتمتلك قرارها المستقل، وذلك كفيل بإسقاط أية مراهنات... وثانيًا استخدام ما لديها وما لها من عناصر القوة استخدامًا يعيد تدوير زوايا الغطرسة والاستعلاء الناجمين فقط عن التضامن العربي المتين الصلب.
وها هي إيران التي تمددت، تعيد حساباتها، باتت تقول لا للنووي، وتسارع للحوار المتكافئ. وعليها وهي ضمن جغرافية الجوار، الخروج من نفق المغامرات على حساب الغير، وأن تبقى جارًا صديقًا لصداقة تحكمها المصالح المشتركة، ضمن عالم بات يبحث عن جديد عن مصالح مشتركة بعيدًا عن الفرض والغطرسة والإملاء.
نقول أخيرًا: متى سينطلق الدخان الأبيض من صنعاء أولًا وتاليًا... متى ينبعث الدهان الأبيض أيضًا من مداخن عدن عنوانًا لوطن نبنيه معًا من جديد... وطن المواطنة المتساوية وطن الدستور والقانون... وطن به الناس جميعًا دونما تمييز من أي نوع كان أو يكون، مواطنون أحرار يعيشون تحت مظلة دولة كاملة السيادة، بها الدين لله والوطن للجميع، دونما إكراه وفرض بالقوة أبدًا لا نريدهما ولن يكونا عنوانًا لوطننا المنشود... نريد وطنًا مستقرًا يسهم بخلق حالة تكامل مع جوار مستقر آمن نبني معًا أفضل وأقوى العلاقات، وبما يحقق المصالح المشتركة لبلادنا وجوارنا الشقيق... تلك فرصة متاحة، فهل يتم اقتناصها؟