صنعاء 19C امطار خفيفة

جزء مقتطع من دراسة عن تجربة الفنان، ستصدر في كتاب ضمن مجموعة دراسات في التشكيل العربي المعاصر.

إدراك المخبوء في روح الوجود.. قراءة في تجربة التشكيلي عبدالوهاب عبدالمحسن

في التجارب الفنية المتفردة، يأتلف المعرفي والعرفاني والمرئي والمتخيل والشعور واللاشعور والجمالي والإبداعي، في نسيج متين، يشيد عالمًا مبتكرًا ومختلقًا، في مقابل عالم متعين، وإن محترف الفنان الكبير عبدالوهاب عبدالمحسن يمثل واحدة من هذه التجارب، فخطابه البصري مسنود على معارف متعددة المشارب كالفنون والآداب على اختلاف أجناسها، وأنواع التراث الشعبي البصري والمحكي والإرث الميثولوجي والفلسفات والمعارف الأخرى على اتساعها، علاوة على تمكنه من أدواته الفنية، وبحثه البصري الذي يحفه الدأب والكد والمكابدة، هذه المصادر وغيرها شكلت ومازالت تشكل رافعة رئيسة لمحترفه.

الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن مع الكاتبة

أعماله على تعدد تقنياتها سواء كانت بالقلم الرصاص أو الألوان المائية والزيتية والأكريلك، أو كانت جرافيكية كالحفر على الخشب، وحتى التراكيب الفراغية، وتلك المنتجة بالوسائط الرقمية، جميعها قوامها استحداث لغة خاصة ومنظار جمالي مغاير، فاستراتيجيات الاشتغال لديه تعتمد على مفارقة الوقائع الحسية أو الوقوف على مسافة أبعد من الحسيات، للانسلاخ عن المعالجات المتحفية، والتخلص من المراجع الضاغطة، والتخفف من ثقل التقاليد الأكاديمية، عن طريق جعل الطبيعة والكائنات مسرحًا للتجاوز، ومرتعًا خصبًا للجموح بالأشكال إلى مستويات من اللاتمثيل، فهو يبذل جهدًا تأصيليًا، ويتهجى البيئة للوقوع على حلول بصرية تعزز انتزاع الأشياء من وجودها الأرضي، وتنزهها عن المعاني الوظيفية، فقوام تجربته يتأسس على هندسة تضاريس الطبيعة والوجوه والأحياء وفق مزاجه الفني المنقاد مع مخيلته، في حبكة تشكيلية يتقصد فيها تحيين الأدوات اللازمة لكل سياق، واختيار العناصر الناظمة للمجموعة التي يعمل عليها، والتي ينتج عنها النسق الذي تنضوي في لدنه جميع الصور المتراسلة.
عبدالوهاب عبدالمحسن، وهو يصغي إلى بيئته، ويغوص في مفاصلها، ويتولج في غياهبها، يهتدي إلى البنى الخفية، ويساكن الكائنات، فتتصدع الرهبة المتبادلة بين الإنسان وبينها، وتحل الألفة بينهما، لتنتقل إلى اللوحات، كما تتمثل السطوح ذلك التناغم والتوافق والتصالح بينه وبين أمكنته، وعلى الرغم من أن مفاصل الصور تنتظم في تأليف وتركيب لا يحتكم إلى منطق الواقع، إلا أن هذه الاختيارات التكوينية تجد دومًا طريقها إلى المتلقي، وذلك لعدة أسباب أهمها ذلك التدفق الروحي المتضمن في ثناياها، فضلًا عن كونها بنى قابلة للإدراك، ليست نسخًا للحياة، وإنما هي نصوص تستضيء بالحياة، غير أنها نتاج آليات اشتغال تتوسم الجمال المحجوب، والمخبوء من القيم في باطن العالم.
لوحة من اعمال الفنان عبدالوهاب عبد المحسن
المسلك التشكيلي الذي اختطه المصور يعج بالمساقات البصرية المتعددة والانتقالات المفصلية، التي تضعه في كل تجربة يخوض غمارها أمام مخاضات جديدة، وهو الأمر الذي يحول دون استنزاف واجترار رؤاه، إذ إنه يعيش حالة من التجاوز المتصل، مبعثه المخيال النشط والحرية الداخلية، وهذه الأخيرة تضع محمله التشكيلي في حركة دائمة، ليس هذا فحسب، بل إنه كثيرًا ماينجذب لهواجسه القلقة، بيد أنه قلق الفنان الذي يكتسب مشروعيته من كونه عملية منتجة تمد صاحبها بالطروحات الأجد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً