هنالك لحظات في حياتنا أصبحت في طي النسيان، ويأتي حدث بسيط ليوقظ فينا ماضيًا بكل تفاصيله، ماضيًا من أجمل الأيام الجريئة والبريئة. وهذا ما حدث لي أثناء جلوسي في ندوة في المركز الثقافي اليمني، لفرانك مينوا، أستاذ الأنثروبولوجي، والذي شغل منصب مدير المركز الفرنسي للدراسات اليمنية في اليمن، في التسعينيات.
كنت أستمع إلى حديثه، لكن عقلي كان في مكان آخر تمامًا، عدت إلى حارة بيت العجمي، حارة بيت جدي، بعد أن أتيت من تعز، وأنا أبلغ من العمر ست سنوات، عدت إلى طفولتي، إلى الأزقة الضيقة، إلى الضحكات التي كانت تملأ المكان، وإلى شخصية لا يمكن نسيانها: رامي الفرنسي، كنا ندعوه نحن الأطفال منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات: رامي، وهو باحث ومدير المركز الفرنسي للدراسات اليمنيه منذ الثمانينيات إلى بداية التسعينيات، واسمه ريمي أودوي.
رامي لم يكن مجرد باحث يسكن في أحد بيوت العجمي في الحارة، بل كان جزءًا منها، تمامًا كأهلها وأطفالها. كان يطل من نافذة منزله في الطابق الثالث، يبتسم، ثم يرمي لنا شوكولاتة الجالكسي والكتكات التي كانت تمثل لنا شوكولا جديدة، فكنا لا نعرف حينها سوى شوكولا المثلث أبو نجمة وغيرها. تعرفت على رامي أول مرة حينما غادرت منزلي بحدة، وذهبت لبيت جدي، كنت أيامها حزينة لأن والديَّ ذهبا إلى مصر مع أخي لفترة طويلة، وكنت في بيت جدي، كان جدي وجدتي يحبانني كثيرًا، ويعطيانني مصروف الجعالة. يومها عدت من الدكان، وأرى أطفال الحارة يصرخون برامي، كنت في حيرة أنظر إلى الأعلى معهم، وأسألهم هل هي لعبة جديدة، يكفي صراخًا، ودعونا نذهب ونلعب، على من تصرخون؟ فيجيب أولاد عم جدي: انتظري ستجدين شيئًا لذيذًا من رامي.
ووسط ضحكاتنا وصيحات الفرح، تنهمر عدد من الشوكولا إلى الأسفل، ويتسابق الأطفال لالتهامها، ولكن بعد أن نتقاسمها ونتذوق من بعضنا لنتعرف على الشوكولا، ومع الأيام اكتشفت أن ذلك الرجل الغريب الذي يغدق علينا بالحلوى، ليسمع ضحكاتنا، كان صديقًا، يشاركنا اللعب وقت فراغه، ويأخذنا في نزهات إلى الحديقة المجاورة، ويجيب على أسئلتنا الطفولية الكثيرة عن فرنسا، عن الأطفال هناك، وعن الفرق بين حياتنا وحياتهم.
كان ذلك الزمان مختلفًا على الكبار والصغار، كانوا متعاونين، لم يكن هناك فرق بين الولد والبنت، كنا مجرد أطفال نلهو ونضحك بلا قيود. الطفولة كانت بريئة، مليئة بالمزاح والشغب، لم يكن يوجد ذلك الحاجز الذي جاء في ما بعد، حين كبرنا كنا نجوب شوارع سبتمبر والبونية، ونأكل البليلة والغسوس، ونذهب صباحًا لنأكل الفول البلدي الذي بجانب الحديقة. كنا نرى امرأة عجوزًا ترتدي لبس الرجال، واسمها حليمة، كانت تصرخ في وجوهنا لمجرد أن نسألها لماذا تحب لبس العسيب والجنبية، واسمها حليمة، ولم نكن نعرف حينها أنها تعمل في أعمال شاقة، لذلك كانت تلبس هذا الزي لتغوص بين الرجال في رزق عيشها، وكانت تملك غرفة وحمامًا في حارة العجمي، وهي كبيرة بالسن.
مرت السنوات، وكبرنا. حين عدت إلى بيت والدي في المدينة السكنية، كنت لا أزال ألعب في الشارع كما كنت أفعل في حارة بيت العجمي، لكن هذه المرة، لم يكن الأمر مقبولًا. غضب أخي الأكبر، وقال لي بصرامة: "أنتِ شابة الآن، وهذا لا يجوز مجتمعيًا!". لم أفهم لماذا يجب أن يتغير شيء لمجرد أنني كبرت قليلًا.
أما حين كنت أزور بيت جدي، فلم أعد أجد الأطفال الذين كنت ألعب معهم كما كانوا، لقد كبروا، وتغير المجتمع بعد خمسة وتسعين. انشغلوا بدراستهم، ثم بشللهم الذكورية، وأصبحت الحارة مختلفة. لم يعد هناك مكان للبنات كما كان في السابق، ولم يعد اللعب بريئًا كما كان. شعرت بالاختناق، وحينها، جاء الزواج المبكر كحلٍّ لي، لم أكن أدرك أبعاده.
مرت الأيام، وكبرت أكثر، وعرفت الحياة بشكلها الحقيقي، بعيدًا عن البراءة التي عشتها في طفولتي، والتي تلازمني إلى اليوم، ويتم نعتي بالغبية. عشت محطات قاسية، قبل ثورة الربيع العربي التي جعلتني أغادر بلدي، وبعدها، حتى جاء الطلاق ليضعني في مفترق طرق جديد، انتهى بي المطاف إلى مصر، بعيدًا عن كل شيء كنت أعرفه يومًا.
واليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أتساءل: يا رامي، هل يمكنك أن ترى كيف تغيّر مجتمعنا اليمني؟ لو أنك بقيت في بيت العجمي، هل كنت ستتعرف عليه اليوم؟ أنا أجزم أن القلوب في تلك الحارة مازالت نقية ومتكاتفة، وأخشى عليها من أن تتغير مثل هنا، لكن هل كنت ستطل من شباكك، ترمي الشوكولاتة، وتنادي الأطفال: "أين أنتم يا جهال؟"، أم أنك كنت ستصمت، كما صمتنا جميعًا، أمام التغيرات المؤلمة التي نعجز عن إيقافها؟
أحنّ إلى تلك الأيام، إلى الحارة القديمة، إلى الحرية التي لم نكن ندرك قيمتها حتى فقدناها. أحنّ إلى طفولتي التي تركتها هناك، تحت ذلك الشباك، حيث كان رامي يضحك ويرمينا بالشوكولاتة، ونحن نركض بكل براءة، دون أن ندرك أن الزمن سيأخذ منا كل شيء، حتى أنفسنا.
يا رامي، لو أنك كنت هنا اليوم في هذا المركز، هل ستتعرف علينا؟ لو كنت هناك هل ستطلّ من نافذتك كما كنت تفعل؟ هل كنت سترى نفس الحارة، نفس الأطفال، نفس الضحكات، نفس الصدق والتعاون في التعامل؟ أم أنك كنت ستجد عالمًا آخر، كما أراه أنا اليوم هنا، عالمًا طغى عليه النفاق والمجاملات والأقنعة؟
لم أعد تلك الطفلة العنيدة، القائدة التي كنت تراها وتشجعها وتقول لها ستكونين امرأة قوية من بين إخوتك الرجال. لم أعد تلك الفتاة التي كانت تجادل وتغامر وتفرض وجودها بلا تردد. أصبحت امرأة تبحث عن مخارج للحياة، لا أكثر. مجرد شخص يحاول أن يبقى على قيد الحياة وسط عالم قد تغير كثيرًا، وتغيرت فيه النفوس. اليوم، أنتظر لقاء أمي وأطفالي، وأفكر في تلك الحارة الجميلة... لااعرف ماذا طرأ عليها بعد كل هذه السنوات، بعد الحرب، بعد الانكسارات التي مررنا بها جميعًا، وبعد وضع معلق أصبح الكل يتحدث بالنيابة عنا كأننا محض تجارب علمية ومخرجات لا ندري أين تذهب بنا!
طفولتي لم تكن فقط في صنعاء، بل كانت في تعز أيضًا، كنت أجول في حواريها بحرية كما كنت أفعل في بيت العجمي. كنت أتنقل بلا قيود، بلا خوف، بلا إحساس بأنني يجب أن أخضع لحدود لم أضعها أنا. لكن اليوم، كل شيء تغيّر. انعدمت الحرية، كأنني انتقلت إلى كوكب آخر، عالم لا يشبه ذاك الذي كنت أعيش فيه. عالم مليء بالجمود، مليء بالشلل، مليء بالنفاق وبتلك النظرات الدونية التي تحاصر أية امرأة تحاول أن تفرض وجودها في مجتمع عقيم.
يا رامي، لو كنت هنا، هل كنت ستظل ذلك الرجل الذي ينزل من شقته في الطابق الثالث ليلعب معنا؟ أم أنك كنت ستنكمش مثلما انكمش كل شيء حولنا؟ بسبب الحرب اللعينة والمصالح الشخصية والحزبية التي تضر بالآخرين، والقوي يأكل الضعيف بلا رحمة؟
كل شيء تغيّر يا رامي. مجتمعنا لم يعد كما كان، للأسف، إلا قلة منهم، لا في اليمن ولا حتى خارجها. في كل مكان، نفس العقول التي ترى أن للمرأة حدودًا لا يجب أن تتخطاها، وأحلامها ليست ملكها، بل تُمنح لها وفقًا لرؤية الآخرين. حتى في الغربة المؤلمة، القريب يؤلمك قبل البعيد، وكأن لا مفر من هذا الواقع الذي يفرض نفسه علينا.
في كل مكان، هناك من يعمل للاستباق، للاحتكار، للمحسوبية والمصالح. لم تعد النفوس نقية كما كنا نظنها في طفولتنا أننا في مجتمع متكامل يجمعنا الصدق والعمل، لم يعد العالم كما كان. لكن، رغم كل هذا، هناك أماكن قليلة تُعيد إليّ شيئًا من ذلك الزمن الجميل.
ويبدو أنه المركز الثقافي اليمني اليوم الذي أصبح بالنسبة لي حارة بيت العجمي، ويشبه حواري تعز القديمة وعدن وغيرها. فيه أناس يشبهوننا، طيبون، صادقون، يحملون في داخلهم اليمن الحقيقي، ليس جميعهم، ذلك اليمن الذي لم تشوّهه المصالح، ولم تحرقه نيران الحقد والانقسام. هناك، أشعر للحظات أنني عدت إلى عالمي القديم، حيث كنا جميعًا عائلة واحدة، نختلف، نتناقش، لكننا لا نحمل حجارة بيدنا لنرمي نوافذ بعضنا البعض بلهب لا ينطفئ.
يا رامي، حال اليمن اليوم يشبه حال اليمن الذي يحاول المركز الثقافي أن يحفظه ويطوره، الفن، التاريخ، التراث، الثقافة، الهوية التي تجمعنا رغم اختلافاتنا، رغم تناقضاتنا، رغم فكرنا المتباين. اليمن الذي كان يومًا خبزًا وشهامة، طيبة ونقاء، أزقة مليئة باللعب، حارات تعج بالحياة، مجتمعًا رغم عاداته الصارمة، كان يملك قلبًا يتسع للجميع، ويعجز عن ذلك.
وفي الأخير، أختتم كلامي وحزني لوفاتك، وسلامي لروحك الطاهرة يا رامي… علّك تتذكرني، أنا الطفلة ماجي، تلك العنيدة التي كانت تبتكر الألعاب، وتأكل حلوياتك اللذيذة مع أصدقائها.