صنعاء 19C امطار خفيفة

لست أعمى يا سيدي بل ساذج

لست ضليعًا في الشأن العام السياسي، ولا مثقفًا سياسيًا ملتزمًا، ولعل حدث الوحدة 1990، والحرب التي تلتها 1994، كان لها فائدة؛ في أنها جعلتني لا أنتظم إلى أي حزب سياسي، ولا أن أصاب بعمى أية أيديولوجية، حتى الديمقراطية التي قدمت كأيديولوجية سياسية بعد الوحدة.

 
ومع ذلك، أصبت بالعدوى السياسية المنتشرة في الفضاء العام للبلاد، وذلك ليس فقط لأن الإعلام السياسي مهيمن على الثقافة في الفضاء العام، بل أيضًا لأن الثقافة اليمنية يغلب عليها الطابع السياسي وليس الفكري.
ولذلك تفاعلت قليلًا مع الأحداث السياسية في البلد، ولكن حينما أتأمل تفاعلاتي السياسية تلك مع مجرى أحداثها، أجدني ساذجًا سياسيًا؛ فهي ليست في المحصلة سوى تفاعل ردة فعل وذات نية طيبة (أي ساذجة)، فأنا عند الكثيرين من الأصدقاء والأقرباء في صورة الله (طيب)، حتى عند المخبرين أيضًا طيب.
 بل كذلك عند الأصدقاء من التيار الإسلامي "طيب تنقصه الصلاة".. بل عند النساء طيب "آه لو أحظى به كزوج".
مع أني لا أصلح سياسيًا ولا زوجًا؛ فقد فشلت في المؤسسة الاجتماعية "الزواج".
أول سذاجة سياسية كانت وأنا أنهي السنة الدراسية الأخيرة في الجامعة 1996، حيث تفاعلت وجمعت طلاب الأحزاب السياسية في الجامعة؛ لأن يكون لنا رد فعل إيجابي على ضرب أبي بكر السقاف (أستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء)، عام 1996، من قبل أجهزة النظام السياسي؛ ردًا على كتاباته السياسية، والتي تمس جسد النظام السياسي وثقافته برمته.
في الحقيقة، كنت معجبًا بكتابات السقاف؛ والتي ينشرها على صفحات الجرائد اليمنية؛ كنت معجبًا ليس فقط في شجاعته، بل في قاموس معجمه الفلسفي والواسع المستخدم في كتاباته.
وهذا الإعجاب زاد في رد فعلي السياسي الساذج حينها، فكان لي نصيب الأسد من كتابة المنشور بلغة مختلفة غير حزبية، وفي التخطيط في كيفية إظهاره، وتقسيم المهام على طلاب جماعات الأحزاب السياسية.
كذلك في اليوم التالي، يوم توزيع الملصقات والمنشور في كليات الجامعة -رغم أني لم أقم بذلك؛ إذ تكفل بها الطلاب المنتمون للأحزاب السياسية- تحصلت على نصيب الأسد لما قمنا به يومها: الاعتقال، إذ كنت الطالب الوحيد من الطلاب المنظمين للاحتجاج على ضرب السقاف، من تعرض للاعتقال.
كنت حينها مدركًا هدف الأحزاب السياسية التي ينتمي لها الطلاب المنظمون للاحتجاج (هدف سياسي إحراج النظام)، بينما هدفي مختلف؛ فضح بؤس ثقافة النظام السياسي (من في السلطة أو من يعارضها).
كان هدفي ساذجًا سياسيًا وغير محنك، لذلك تلقيت اتفاقًا غير مبرم بين أجهزة النظام الأمنية والمنظمين الحزبيين للاحتجاج؛ على التضحية بي وسجني لمدة بسيطة وساذجة أيضًا (ثلاث ساعات). لنعتبر هذا التقدير وهمًا ووسواسًا.
خلال اعتقالي من قبل ضابط أمن الجامعة، وأخذي من بين الجميع في سيارة جيب، والذهاب بي إلى مقر الأمن، لم أهتم بتفاهة الاعتقال، فقد كان ساذجًا وبائسًا كضرب أبي بكر السقاف.
لكني استمررت في سذاجتي حينما تحدثت جادًا مع ضابط الأمن: "الأجدى للنظام السياسي أن يلغي الديمقراطية السياسية، ويعلق المعارضين والكتاب السياسيين على جدران الشوارع". تحدث بجدية مع الضابط الذي عله تبين له أيضًا سذاجتي السياسية.
السذاجة السياسية الثانية كانت مع أحداث 2011، إذ تفاعلت معها قليلًا رغم نباهتي في أن ما يسمى الربيع العربي في اليمن -وإن كان له عوامل سياسية محليًة تأتي كفعل ثأر سياسي لا ثورة- يأتي في سياق سياسة عالمية جديدة في المنطقة العربية.
فقد كتبت بسذاجة سياسية عن حرق "بوعزيزي1" في صحيفة "النداء"؛ ليس بغرض التقليل من فعله، وإنما بغرض إظهار بؤس مفاهيم الاستشهاد والوطنية والإسلام في ثقافة الأحزاب السياسية التي تجر الشباب إلى الموت.
كنت غير متحمس ومرتابًا مما يسمى "الربيع العربي" أو ما تسمى "ثورة الشباب"، وهذا اتضح في عزوف محرري "النداء" عن نشر "بوعزيزي2" على صفحات الصحيفة. "الناس في ثورة يريدون كتابة تحمسهم لا كتابة تقاعسهم عن الفعل الثوري"؛ هكذا كان رد محرري "النداء" على عدم نشرهم لنص المقالة الثانية حول بوعزيزي.
وهذه الملاحظة من قبل محرري "النداء" لها مسوغاتها الصحفية، وكذلك مسوغاتها الأدبية الثورية.
تقبلت مبرراتهم الصحفية والسياسية وقتها؛ غير أني كنت ساذجًا.. فالسذاجة شفاعة.
ورغم ذلك (اللاحماسة للثورة) لم يمنع من تأمل أحداثها وأنا على الأريكة؛ دون أحكام على الشباب أو على منظميها أو على أهدافهم.
فقط كنت أتلمس قراءتها بأسلوب مختلف، لنقل عنه "الأسلوب الساذج" كسذاجة ما أكتبه هنا.
ومع ذلك استمرت سذاجتي السياسية؛ حين طلب مني أحد الأصدقاء الشباب المنضوين في الساحة أن أتحدث عن التعايش في إحدى خيام الساحات، ورغم تحرزي من غلبة الثقافة السياسية -كما أوضحت أعلاه- من جانب، ومن الأهداف السياسية الآنية لكل من الأحزاب التي نظمت الاحتجاجات، من جانب ثانٍ؛ إلا أن طيبتي تخطت تحرزاتي، وذهبت كرمًا للصداقة.
وحين تحدثت مع الشباب المتواجدين في خيمة اسمها "خيمة المستقبل"، بأن أكثر سذاجتي السياسية في الهدف الذي سعيت وراءه (في أني قادر على رد الشباب إلى بيوتهم)، غذ أبنت لهم أنهم مجرد ضحايا لعمل سياسي محلي وإقليمي ودولي.. أي أن المتصارعين نصبوا لهم الفخاخ "فخ الثورة". بهذا المعنى تحدث معهم.
وحتى يقعوا ضحايا حقيقيين للمستقبل، لا مغفلين -كإياي- تحدثت معهم حول فائدة هذه الأحداث؛ في أنها فرصة لإعادة النظر في كل شيء تقريبًا، في الثقافة السياسية، وفي التعليم، وفي التراث، وفي الحب، وفي الرغبة.
كنت أطرح أسئلة.. أسئلة فقط، وأتحدث معهم في حزن؛ لذلك دمعت عيني أمامهم بسبب الشباب الذين أخذتهم اللجنة المنظمة مساء يوم حديثي معهم، حتى مجلس النواب، كي تقتلهم وتصورهم على شاشة الفضائيات (بالنسبة لي).
صحيح للساسة من وراء ذلك أهداف، لكنه عندي هدف بائس ليس له علاقة بالمستقبل؛ لذلك دمعت أمام الشباب دون مواربة سياسية، ودون هدف سياسي سوى هدف سياسي ساذج يمنع الشباب من مواصلة الاحتجاج حتى لا يصبحوا ضحية؛ لذلك طلبت منهم العودة إلى البيوت وإخراج آبائهم إلى الساحات ولو بالقوة.
لقد فشلت في هدفي، لكني نجحت في مصادقة أعينهم، وتحسس براءتها.
ولكن من لحظة مغادرتي أصبحت مراقبًا من الأجهزة الأمنية التي كان لها نصيب في إدارة الأحداث وتوجيهها من داخل الساحات. عله وهم مني.
لعل سذاجتي مثلت خطرًا على الثورة من جانب، أو لعل من جانب ثانٍ؛ خطابي الساذج حينها يساعد طرفًا سياسيًا في ردع الاحتجاج؛ أي وضعي في دائرة الاستقطاب من قبل هذا الطرف. لكني هنا لست ساذجًا.
ومع إعلان الحرب في اليمن رسميًا عام 2015، استمرت سذاجتي؛ في أن لي قدرة تمنع الشباب من الانخراط في الصراع المسلح؛ حتى لا يصبحوا ضحايا.
وعندما سافرت قريتي الصغيرة في ريف تعز -بعد قطع رواتب الموظفين- كانت الأحزاب مجهزة بالسلاح والشباب والزج بهم في معاركها السياسية؛ فقد كانت تعز -بالنسبة لي- فخًا سياسيًا للقتل لأهداف سياسية متباينة.
حتى إن لي رأيًا سياسيًا ساذجًا أعلنته في مقايل القرية التي كنت أحضرها، مفاده "ينبغي أن نتعامل مع السعودية والإمارات كمصالح وجوار وثقافة واحدة، حتى وإن كان للسعودية هدف في إيجاد مد طريق لأنبوب النفط على البحر العربي، ليكن ذلك اتفاق مصالح وبالقانون".. لعل هذا الرأي السياسي الساذج هو الذي جعلني أضحوكة أخلاقية بين الناس (بخاصة أناس القرية كبار السن والذين أحبهم) في نشر فضحائي اللاأخلاقية؛ إلى درجة وصفي بـ"الديوث"، حسب التقديرات الأمنية للمتصارعين.
ومع ذلك لم أكترث، فلست زعيمًا سياسيًا ولا حزبيًا، فاستمر هدف سذاجتي السياسية (في منع الشباب وبخاصة الصغار منهم من اللحاق في الصراع)، إذ كنت أتحدث وبسخرية مع الشباب، بخاصة الأولاد غير المنضوين في الأحزاب، أن الأولى على من لا يجد عملًا ومرغم لأن يلتحق من أجل العيش، أن ينتبه بألا يصبح ضحية ساذجًا لقوى سياسية تافهة -بالنسبة لي- حتى وإن جرى أن استقطب لصراع الحرب، فعليه الحذر؛ بل الأولى له أن يحدد أهدافه الشخصية لا السياسية من هذه الحرب (المال هدف لا الوطن).
ولكن البؤس والحياة التي يعيشها الناس في الأرياف التي زرتها في مديريتي التابعة لمحافظة تعز، كانت تهزأ مني، وتبادلني السخرية.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً