إهداء:
إلى المناضل الجسور الوطني الصلب؛ المثقف العضوي؛ المفكر السياسي؛ اليمني الإنسان؛ النقي الصادق؛ صاحب الحلم الجميل الذي لا يعرف الفرز العرقي والجهوي والمذهبي إلى قلبه سبيلًا، الدكتور ياسين سعيد نعمان.
لقد أتحفنا المناضل الجسور الدكتور يا سين سعيد نعمان، بمقاله المذكور آنفًا، والذي نشره على صفحته على "فيسبوك"، بمناسبة حلول الذكرى الثالثة عشرة لثورة الحادي عشر من نوفمبر ٢٠١١م المجيدة، التي حلت علينا اليوم (١١ فبراير ٢٠٢٥م)، وسط صمت يكتنف الأحداث التاريخية التي شكلت منعطفًا حاسمًا في مسار البلاد. يعكس هذا الصمت حالة من الإحباط واللاوعي، إذ يُعتقد البعض مخطئًا أن الوضع الراهن هو نتيجة مباشرة لثورة فبراير، بينما الحقيقة هي العكس من ذلك تمامًا، فما يعاني منه اليمن واليمنيون هو انعكاس لثورتين مضادتين دمويتين لثورة ١١ فبراير ٢٠١١م؛ كما أن ما يجري أيضًا هو أكثر تعقيدًا مما يذهب إليه أولئك النفر من الذين يقرؤون الأحداث الكبرى بسطحية وسذاجة.
فثورة ١١ فبراير ثورة سلمية جمعت بين الطيف الأوسع من القوى السياسية والدينية والوجاهات الاجتماعية التي لبت نداء ثورة الشعب بتغيير النظام، إلا أن الثورتين المضادتين حرفتا مسار ثورة الشعب السلمية وثورتي (٢٦ سبتمبر و١٤ أكتوبر). واجتمع ثوار الساحات على هدف واحد مفاده "إسقاط النظام سلميًا"، أي إسقاط "الجملكي" الذي أراد أن يحول اليمن إلى "عزبة" يورثها لغلمانه؛ فدعت ثورة الشعب إلى العمل على تجاوز الخلافات السياسية؛ والبحث عن حلول سلمية بالجلوس إلى طاولة حوار يرسم فيها اليمنيون معالم دولتهم الحديثة، إلى حوار يرسم دولتهم المدنية الاتحادية الديمقراطية التي تعتمد على مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق خرج شباب الثورة إلى ساحات التغيير في كل ميادين محافظات الجمهورية، معلنين إسقاط النظام بصدور عارية، وقد نجحوا في توحيد الجهود نحو تحقيق التغيير السلمي بعدم الانخراط في استخدام القوة الذي حاول النظام جرهم إليه بإنزال قناصته ليطلقوا النار الحي على المعتمرين في الساحات، ارتكب النظام من خلالها مجازر كان أبشعها مجزرة "جمعة الكرامة". ولقد أدرك الجميع، بمن في ذلك من كانوا جزءًا من النظام القديم، أن التغيير السلمي بات ضرورة ملحة لحماية الدولة من الانهيار؛ فتم التوصل إلى مرجعية واحدة أسهم في صياغتها رأس النظام، وسميت "المبادرة الخليجية".
كما سبق أن توجت هذه الثورة بمؤتمر حوار وطني شامل، استمر مدة ستة أشهر ونجح في التوصل إلى أفضل وثيقة توصل إليها اليمنيون عبر التأريخ؛ رغم التحديات والصعوبات التي واجهته. وكانت المخرجات مرجعية لبناء تلك الدولة التي يتطلع إليها الشعب، وبحق كانت خطوة مهمة نحو صياغة عقد اجتماعي جديد "مسودة الدستور".
تلك المسودة التي استهدفت بناء دولة مدنية اتحادية ديمقراطية تعددية تحترم المعتقدات، ويغيب عنها الخطاب الديني بما بحافظ على وحدة الصف والنسيج المجتمعي من التمزق، تحقق ذلك رغم تعرض الحوار لضغوط من قوى سياسية إقليمية ومحلية مختلفة، حيث واجهت اليمن تحديات كبيرة، أبرزها وأخطرها الانقلاب الذي قاده علي عبدالله صالح وحلفاؤه ومنهم "أنصار الله". وتم الانقلاب وتشكل ما يسمى "المجلس السياسي"، وأجبر الرئيس عبد ربه منصور هادي على الفرار إلى عدن بعد أن رفض "أنصار الله" التعاطي مع استقالته التي وجهها حسب الدستور إلى رئيس وأعضاء البرلمان.
ومن على شرفة قصر الثنية يعلن المخلوع علي عبدالله صالح أمام ثلاثة من مؤيديه من أبناء محافظة تعز، الحرب على المحافظات الجنوبية، إذ أطلق على حرب صيف عام ١٩٩٤م حرب الثلاثة منافذ، وحربه الأخيرة حرب المنفذ الواحد، وكلا الحربين مثل طعنة نجلاء في خاصرة الوحدة اليمنية؛ وقد أعلن الحرب الأخيرة تحت نفس مبرر الحرب الأولى، فقال إنه سيلاحق الفارين إلى عدن، وإنه لن يسمح لهم الفرار إلا من منفذ واحد، وهو البحر الأحمر عبر "جيبوتي"، معتقدًا أنه سيستخدم "أنصار الله" كرتًا كحزب الإصلاح وجماعة علي ناصر محمد، حسب تعبيره الساخر عندما تنصل من استمرار تحالفه مع حزب الإصلاح.
إلا أن تحالفه مع "أنصار الله" جاء في مصلحتهم، إذ صار صالح هو الكرت المستخدم، مما أسهم في تعزيز الانقسام السياسي، وزيادة حالة الفوضى التي شهدتها الساحة اليمنية تصعيدًا في العنف؛ وأدخلت اليمن في أتون حربين ظالمتين داخلية وخارجية، أكلتا الأخضر واليابس، ولاتزال تجر بأذيالها إلى يوم الناس هذا.
وحلت الثورة المضادة الدموية محل الثورة السلمية، والانتقال من التراشق بالكلمات إلى التراشق بدوي المدافع؛ وعانت ولاتزال اليمن من ويلات هاتين الحربين.
ومن المعلوم أن أي حوار تحت فوهات المدفعية غير ذي جدوى، فالعمليات العسكرية ضد الخصوم السياسيين، لا تنتج إلا الخراب والدمار وسفك الدماء، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في اليمن. وكان للثورتين المضادتين لثورة ١١ فبراير ٢٠١١م، تأثير سلبي على جهود الحوار الوطني، إذ تم إحباط العديد من المبادرات السياسية التي كانت تهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.
ولكي نكون أكثر وضوحًا، فإن علة العلل هو نقض العهود من قبل الطرف الأقوى؛ وقد شاءت الصدف أن يكون سبب الحربين (حرب صيف عام ١٩٩٤م وحرب ٢٠٠١٥م) واحدًا، فقد نقض الرئيس علي عبدالله صالح العهدين (عهد وثيقة العهد والاتفاق وعهد مخرجات الحوار الوطني الشامل)، إذ أشعل الحرب الأولى قبل أن يجف حبر تواقيع الموقعين على "وثيقة العهد والاتفاق"، وأما الشيخ عبدالله الأحمر فقد نقض العهد لحظة توقيعه على الوثيقة حين اشترط "عودة شركاء الوحدة" المغدور بهم إلى صنعاء.
وفي ضوء ذلك، تحالف المؤتمر الشعبي العام مع حزب الإصلاح وجماعة الرئيس علي ناصر محمد الذي ارتكب أبشع جريمة اغتيال في حق قادة الحزب الاشتراكي، وهي تذكر بتلك الطريقتين البشعتين اللتين من خلالهما تم اغتيال الرئيسين الشهيدين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي.
ونعود إلى تحالف الرئيس السابق علي عبدالله صالح مع أنصار الله، الذي لايزال ساري المفعول حتى اليوم، إذ نتج عنه تغييرات كبيرة في التركيبة السياسية للبلاد، فتمكن أنصار الله من السيطرة على مناطق واسعة من المحافظات الأكثر سكانًا (٧٠% من سكان الجمهورية اليمنية)، وما يحسب لأنصار الله أنهم تمكنوا من الحفاظ على الأمن واستقرار نسبي لسعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية؛ بينما فشلت الشرعية المدعومة خليجيًا في ذلك، إذ تدهورت العملة المحلية في المحافظات التي تحت سيطرتهم، بل تشظت تلك المحافظات إلى أكثر من ثلاث دويلات (عدن؛ مأرب؛ حضرموت؛ تعز والمخا)، مما زاد من تعقيد الوضع السياسي. كما أدى هذا التحالف إلى تدخلات إقليمية ودولية في الشأن اليمني، ما ضاعف من تعقيدات الأزمة، وأدى إلى تفاقم الصراع.
وبالإضافة إلى ذلك، أثر ذلك التحالف بشكل مباشر على عدم تطبيق مخرجات الحوار الوطني الشامل، بما في ذلك "مسودة الدستور" التي عكف على إعدادها علماء في القانون الدستوري تحت إشراف الفقيه في القانون الأستاذ إسماعيل بن أحمد الوزير، وهو أحد أبرز الذين أسهموا في تأسيس القضاء اليمني ومؤسساته. على الرغم من الجهود الكبيرة التي بُذلت في إعداد هذه الوثيقة القانونية المهمة، إلا أن تحالف صالح والحوثيين جعل من الصعب تنفيذها، مما أدى إلى تفشي الفوضى وزيادة الأزمات السياسية.
العقبات التي واجهت تنفيذ مسودة الدستور، تضمنت الانقلاب على العملية السياسية السلمية بقوة السلاح. هذا الانقلاب لم يكن مجرد تصرف عشوائي، بل كان مدعومًا من قوى إقليمية كانت تسعى لتحقيق مصالحها في اليمن. وهي عينها التي كانت من وراء إشعال حروب صعدة الست صيف عام ٢٠٠٤م؛ وكذلك ما نجم من آثار سلبية عن حرب صيف عام ١٩٩٤م، كل ذلك أثر سلبًا في خلق بيئة سياسية غير مستقرة، إذ أدت إلى تفاقم الانقسامات الجغرافية والسياسية التي استُغلت لاحقًا؛ وأصبحنا نشاهد في مكتب رئيس المجلس الانتقالي علمًا شطريًا وتصريحات تطالب بفك الارتباط؛ وكاتب هذه السطور يحمل مسؤولية هذه المآلات الحربين الظالمتين عامي ١٩٩٤م و٢٠١٥م، في تمزيق النسيج المجتمعي، ومسؤولية تشظية اليمن إلى يمنات.
وتذكيرًا بتلك الأحداث التي شكلت مسارات خطيرة لثورتي سبتمبر وأكتوبر والحادي عشر من فبراير، ما جرى بعد فشل أنصار الله تنفيذ ما سموه "الإعلان الدستوري" الذي أعلنوه عقب دخولهم صنعاء، وعدم قبولهم التعاطي مع استقالة الرئيس عبد ربه منصور هادي دستوريًا، ومنذ ذلك التاريخ والأزمات في اليمن تتوالى.
وللتذكير وإعادة بعض الأحداث إلى الأذهان، فإن "أنصار الله" أعلنوا قبل دخولهم "صنعاء" مطالب ثلاثة هي:
* تنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل.
* وإعادة الدعم للمنتجات النفطية بإلغاء الجرعة.
* وتغيير الحكومة.
وقد نفذ الرئيس هادي هذه المطالب، فألغى الجرعة، وغير الحكومة، وبدأ بتنفيذ مخرجات الحوار بتشكيل لجنة لصياغة الدستور، وكانت "مسودة الدستور" باكورة منتجات مخرجات الحوار الوطني الشامل، إلا أن هذا لم يؤدِّ إلى تحقيق ما خطط له الحليفان (المؤتمر والأنصار)، أي لم يكن كافيًا، ولقد نجحت لجنة صياغة الدستور في الاستئناس بمخرجات الحوار الوطني الشامل، وأعدت أفضل مسودة دستور راعت الاستفادة من تجارب دول العالم المتقدم.
بالمجمل، أدت هذه الأحداث إلى إدخال اليمن في حربين داخليتين وخارجيتين لأول مرة في تاريخ الحروب اليمنية، مما زاد من تعقيد الأزمة، وأثر سلبًا على مستقبل البلاد. وإن ما حدث بعد ثورة فبراير لم يكن مجرد تحولات سياسية، بل كان تحولًا جذريًا في مسار البلاد، مما يستدعي مراجعة شاملة للأحداث والدروس المستفادة.