في سنة الحرب الثانية كنت مع صديقي الراحل حسن عبد الوارث نتجول عصراً في شارع المطاعم بحي التحرير، كنا نحاول استعادة ما يربطنا بالمكان من ألفة اثثتها في الذاكرة؛ الوجوه وتفاصيل المكان ومبذولاته المتنوعة التي تبدأ بالأطعمة والمشروبات ولا تنتهي بطابع المعمار المديني الذي يقترب في بعض البنايات القديمة من طابع (بناجل) مدينة عدن بشرفاتها وأفاريزها الإسمنتية .
وفي معرض الحديث المتشعب قلت له : ثمة مكان آخر في صنعاء أيضا يشبه عدن وأهلها غير مربع شارع المطاعم هذا، والذي ارتبط لسنوات طويلة بالشاهي العدني والأكلات الشعبية والتمبل والأهم بالحضور الكثيف لوجوه أبناء المدينة الفارقة في حياة اليمنيين قبل أن تفعل الحرب فعلها القاسي في تآكل المكان وتشتت وجوهه ومرتاديه بسحناتهم المختلفة
قال مستحيل !! وأردف ؛ حتى وإن وجد فلن يكون بذات الروح القائمة هنا.. اتفقت معه في الجزئية الثانية، وحين سأل عن الموقع الذي أقصد.. قلت له كنتَ مجاورا له لسنوات طويلة.. كان لصقك تماما ، ولم تزل تمر أمامه وتتناول من وقت لآخر أطعمتك فيه، حينما تكون بدون أسرة، ومن كثر الاعتياد عليه ربما لم تحس به ولم تتفحص روائحه .. هذا المكان لا تتجاوز مساحته الأمتار الخمسة عشر. لكني حينما أمرُّ شخصيا على رصيفه تتلقفني اللحظة وتسلمني إلى عدن النابتة في المسام .. ثمة رائحة عدنية ،ولهجة تتصاعد من المكان باللسان المحبب، وثمة أشياء صغيرة من تفاصيل المدينة الساحلية التي نحبُ.

وحين أخبرته عن المكان قال، كلامك صحيح !!
كنت أعني بالضبط بالمكان ، في حديثي لحسن ، ثلاثة محلات متلاصقة وبمساحات متفاوتة في عقار متوسط بشارع متفرع من شارع هائل ( الرياض). يبدأ من تقاطع محطة البترول (محطة الوحدة) بالاتجاه الغربي المؤدي إلى الحارة القريبة من بوابة وزارة النفط الخلفية ،وصولا إلى سبأ فون ومنطقة المحوى (حيث تتكدس في مساحته المستقطعة عن أرضية قاعة المؤتمرات مئات الأسر المعدمة من فئة المهمشين وغير المهمشين التي قذفت بها الحياة إلي المكان الذي صار يشبه ببؤسه تضاريس البلاد.)
قصدت بالمحلات الثلاثة التي اُستقطعت من صنعاء لتكون مفردة عدنية بامتياز ،حسب ما يقترحه العنوان، هي "آيسكريم وملاي التواهي "، ومطعم "بندر عدن"، ومحل "التمبل"، وأكبر ثلاثتها هو المطعم، وأصغرها محل التُمبل
آيسكريم وملاي التواهي افتتحه لاعب كرة القدم المعروف المرحوم طارق السيد، الذي كان أحد نجوم فريق وحدة صنعاء في السبعينات والثمانينات، وهو أحد أبناء مدينة عدن المنتقلين إلى صنعاء.. في هذا المحل تقدم الوجبات العدنية الخفيفة التي يمكن لأحدنا مشاهدتها أو اشتمام رائحتها في سوق الشارع الطويل بقلب كريتر (عتر عدني، بطاط بالحُمر، بطاط بالكاري، بالإضافة إلى الآيسكريم الشعبي والملاي)، ومنذ بعد العصر تزدحم كبائه الضيقة والمحدودة ( كبينتان فقط يفصلهما لوح ابلاكش و تغطى مداخلها بقماش ملون سميك للحفاظ على خصوصية الزبائن) بالعديد من العائلات التي تتناول هذه الوجبات، والمنصت للأصوات المنبعثة من المكان سيدرك أن لسان عدن المحبب هو الفاعل والنشط فيها.

ثلاثة محلات متلاصقة وبمساحات متفاوتة في عقار متوسط بشارع متفرع من شارع هائل ( الرياض). يبدأ من تقاطع محطة البترول (محطة الوحدة) بالاتجاه الغربي المؤدي إلى الحارة القريبة من بوابة وزارة النفط الخلفية ،وصولا إلى سبأ فون ومنطقة المحوى (حيث تتكدس في مساحته المستقطعة عن أرضية قاعة المؤتمرات مئات الأسر المعدمة من فئة المهمشين وغير المهمشين التي قذفت بها الحياة إلي المكان الذي صار يشبه ببؤسه تضاريس البلاد.)
المحل افتتحه السيد في وقت مبكر من التسعينات واستقدم له ،من عدن، طباخا ماهرا بتحضير الآيسكريم والوجبات الخفيفة، حينما كان الشارع والأحياء المحيطة به من الدائري وصولاً إلى الستين الغربي منطقة مفضلة للسكن والاقامة لموظفي الدولة وغيرهم القادمين من عدن وبقية المحافظات الجنوبية بعد مايو 1990، بسبب حالة التنوع المديني فيها.
مطعم بندرعدن الذي يستحوذ على أغلب مساحة العقار، بفتحتين كبيرتين، يبدأ فتح أبوابه من قبل الظهر، لتقديم وجبات عدنية مشهورة مثل الزُربيان، والصيادية، والمطفاية ، والأكلات البحرية إلى جانب البروست الذي يقدم في المحل كوجبة مسائية فقط.
أصغر المحلات في العقار هو محل بيع التُمبل، والذي قبل استحداثه كان ممرا ضيقا للعقار، وفيه تباع أوراق التمبل الهندي التي يلف بداخله الفوفل والجوز وبعض المنكهات الحار والحلوة، بذات الكيفية التي يباع فيها في شوارع وحوافي وأزقة عدن، وإلى جانب التمبل يعرض صاحب المحل في رف أمامي أنواع مختلفة من العُشَّار( مخلل شعبي يُحضّر من الليمون) وفي رف مقابل يعرض بخورا عدنيا مغلفاً بالقصدير وعطورا شعبية. تنبعث من المحل الروائح المميزة ، وعلى رصيفه القريب ثمة لطخات حمراء متفرقة صنعتها بصقات المتعاطين. لهذه النبتة وأصباغها.
قبل سنوات كان إلى جانب العقار الذي تحتل دوره الأرضي المحلات الثلاثة عمارة قديمة نوعا ما مشيدة بالبلوك من دور واحد تمتد إلى الشارع العام وبها مطعم بشهرة كبيره، عرف بمطعم (أبو أصيل)، كان يقدم الأطعمة الشعبية في وجبات الاقطار والعشاء بذات الطريقة العدنية ( البيض العدني والفاصوليا والدقة والشاهي الملبن)، وكان يتكامل مع المحلات الثلاثة في كسو المنطقة بالحالة العدنية، غير أن مالك العمارة باعها وقام المالك الجديد بهدها، لكنه حتى الان لم يرفع فيها عمودا واحدا، بسبب اشكالات قانونية حول تبعية الأرضية كما قيل لي. مطعم أبو اصيل بدوره انتقل مع طاقمه إلى محل أصغر باقرب من موضعه القديم وتحديدا جوار مدخل عمارات هايل، ولا يزال يقدم ذات الوجبات بنكهتها ومذاقها المميز.
العجيب في الأمر أن من يدير هذه المحلات بما فيها مطعم أبو أصيل أو بمسماه الجديد ( فواكه اليمن) ويحضِّر منتوجاتها من الأطعمة المختلفة ينتمون إلى منطقة واحدة في محافظة تعز، وهي مديرية الصلو، وكان فضل عدن عليهم و قبل ذلك على أبائهم كبيرا.
التقديم:
في سنة الحرب الثانية كنت مع صديقي الراحل حسن عبد الوارث نتجول عصراً في شارع المطاعم بحي التحرير، كنا نحاول استعادة ما يربطنا بالمكان من ألفة اثثتها في الذاكرة؛ الوجوه وتفاصيل المكان ومبذولاته المتنوعة التي تبدأ بالأطعمة والمشروبات ولا تنتهي بطابع المعمار المديني الذي يقترب في بعض البنايات القديمة من طابع (بناجل) مدينة عدن بشرفاتها وأفاريزها الإسمنتية.
ماذا عن 15مترا عدنياً مستقطعا من صنعاء ؟