تزايدت في الآونة الأخيرة عملية النصب، هذه الظاهرة الخطيرة جدًا التي راح ويروح ضحيتها كثير من الناس الفقراء وقليلي الوعي، سواء كان ذلك في الأرياف القصية التي يعاني أبناؤها من عدم معرفتهم بالظواهر الإلكترونية، أو في المدن التي تعاني نتيجة الأوضاع التي تعيشها البلاد من ضعف في الجانب القانوني الذي لا يسأل ولا يتتبع مثل هذه الظواهر باعتبارها جرائم جدًا خطيرة لا تقل عن نوع الجرائم البشعة الأخرى.
ثمة مئات الضحايا في اليمن أوقعت بهم حبائل النصابين في مصيدتها، كثير من هؤلاء يشتكي اليوم، إلى جانب وضعهم المعيشي الصعب، من استغلال المشهورين الذين برزوا تحت أسماء نسائية وهمية عبر منصات التواصل الاجتماعي، وذلك بعد أن ذاع صيتهم، وصاروا مشهورين، إذ لاتزال الشهرة في اليمن فعل ضغط ممارس، وواهم بالنسبة لبقية ناس المجتمع، فهي -أي الشهرة- تكسب أصحابها، على الأقل، وجهة الناس، وهو الفعل الطائل نفسه الذي يوصل النصابين ببقية ناس المجتمع الآخرين من مختلف فئاتهم وطبقاتهم.
كثير من النصابين نجحوا في تحقيق مآربهم، وكثير منهم حظي باستلام مبالغ مالية كبيرة جدًا تحت مسمى فعل الخير وإنقاذ الفقراء ومساندة المحتاجين، وغير ذلك، أيضًا هو جزء لا يتجزأ من ضريبة الحرب التي يدفعها الفقراء الذين عبثت بهم غير قليل من سنوات الحرب المريرة، لتأتي هذه المرة ظاهرة النصب مجهِزة على ما تبقى من الأمل فيهم.
كثيرًا تنامت هذه الظاهرة، وأصبح لها مشاهيرها، لكن أين كان الخلل؟ هذا السؤال إذا كنا نريد الوصول إلى بعض البدايات الأولية للمشكلة، فعلينا أن نعرف أيضًا على من كانت تركز هذه الفئة النصابة من الناس، سنشعر وسنعرف أن أهم فئة كانت تريد بغية الوصول لها، هم التجار المغتربون.
لا ينكر أحد، أن ثمة مساعدات من تجار ومغتربين لفعل الخير، هي في أصلها متحمسة، وقد لا تسلم من أن بعضها يبحث عن الشهرة، وهذا هو ما عرضها لكثير من أدعياء عمل الخير والفزعة "النصابين"، والفعل ليس وليد اللحظة، بل سابق قبل ذلك حتى تحت مسمى جمعيات ومبادرات تتخذ لها طابعًا مؤسسيًا ورسميًا.
هذه هي إفرازات الحرب التي طالت الجميع في كل جوانب الحياة، لا سيما الاقتصادية والأخلاقية التي حولت الكثير نحو ممارسة الأعمال غير السوية، وبكل إصرار وتعمد أذية للآخرين، وحجب كل مفاهيم الثقة والأخلاق والتعاون.
تمر اليمن بمرحلة هي الأسوأ على الإطلاق، حرب ومجاعة ومخافة وحصار، ولعنة أخرى هي الإمامة.
ثم إلى هكذا حديث طويل، يقينًا فإن الحرب لعنة أصابت الإنسان اليمني منذُ بدءِ الحياةِ، فكلُّ ما تفعلهُ الحروبُ هو الكوارث والمآسي التي لا ينجو منها أحد، صغيرًا كان أو كبيرًا، جاهلًا أو متعلمًا، بسيطًا، أو فقيرًا، أو غنيًا، ندرك أنها غالبًا ما تكونُ أشد وطأةً على الطيبين والبسطاء، دومًا هي ما تزيدُ آلامهم، وتضيف إلى جراحهم جراحاتٍ عِظامًا، وتضيف إلى معاناتهم عناءً أشدَّ وقعًا وإيلامًا، ذلك ما شهدتهُ الحرب على اليمن، وفي اليمن، والتي تدورُ رحاها منذُ عشرة أعوام أو يزيد، في صراعٍ سياسي على السلطة والحكم لا دخل للبسطاء والفقراء فيها إلا كونهم وقودًا تؤجج نار الحرب وسعيرها أجسادهم المنهكة والمتعبة والمثقلة بهمومِ الدنيا وأوزارها، في مشاهدَ يوميةٍ مأساويةٍ يندى لها جبين الإنسانية.
مشاهدُ ترى فيها الجموع من هؤلاء البسطاء المطحونين يقادون كأعواد الحطب الباليةِ لترمى في أتون الحربِ بغية إشعالها، وذلك إرضاءً لرغبة هذا القائد أو ذاك من تجار الحروب وأرباب السياسة والصراع الذين يقفون مستمتعين أمام جثثِ القتلى من البسطاءِ والعامةِ، ولأنهم يدركون حينذاك أنّ مكاسبهم السياسية ستزداد بما يعملون على استثمارها استثمارًا أمثل في حروبهم الإعلامية والكهنوتية، إنها الحربُ في اليمن الشاهدُ الحيّ على أنهّا لعنة على المعذبين والبسطاء والكادحين والمغتربين معًا.
تتلاشى أصوات الحرب عبر الكلاشنكوف، وتظهر الحرب الحقيقية "أخلاق العصابات الاستغلالية" التي شكلت لها حيزًا من الحضور تحت مسميات عدة.
تراشق الكثير من الناشطين والإعلاميين وتبادل الفضائح والاتهامات في استغلال حاجة الفقراء وقبل ذلك الطيبين والكرماء لدعم مشاريعهم، يوحي بوحشية الجرم المضاعف والوبال الذي يراكم ويزيد معاناة اليمنيين.
ومع تداعيات الأزمة الأخلاقية الحاصلة، التي أوجدت طرقًا كثيرة للنصب وخداع الناس، منها شركات الأسهم الكثيرة التي راح ضحيتها ناس كثر دفعوا أموالًا طائلة تم جنيها من المساكين والمستثمرين، وكذلك المبتزين لأعراض النساء والتهديد لهن بنشر خصوصياتهن تحت مسمى الفضيحة والعيب الذي يفرضه التدين والأعراف والأخلاق المجتمعية، لا يختلف اثنان مع ذلك في أهمية القول بأن إعادة تنشئة المجتمع أخلاقيًا وإنسانيًا هي الأحوج قبل بداية بيع وهم الاستقرار وإنهاء الحرب. هذه لعنة إن لم نعالجها.
* رئيس تحرير منصة ريشة