مقال سعيد عولقي فجر ينبوع حب للزعفران، وذكرني بالرجل العالِم والمخبازة العريقة التي تقع في بداية شارع الزعفران شمالًا وأنت قادم من شارع القربي، أو كما كان يسمى للعامة من الشعب، نسبة إلى أشهر محل نظارات في عدن لصاحبه الحاج القربي.
ساقني المقال للأستاذ سعيد عولقي كي أعود لذكريات طفولة أظنها كانت حافلة بكل ما تعنيه الكلمة بذكريات ظلت عالقة ولن أقول محفورة، وإنما عالقة من التعلق بتلك الحقبة الزمنية التي أصبحت تبدو الآن الحقبة الذهبية في تاريخ عدن مقارنة بما يحدث لها الآن!
المهم، علي أفندي هذا كان بالنسبة لي رمزًا من رموز الزعفران، وملاذي الآمن وقت الجوع أثناء خرجة السوق المعتادة لنساء وأطفال عدن (فين فلان؟ بالسوق)، السوق هذا كان زي مغارة علي بابا.. فيه كووووول شيء من لبس وأكل وصرافين ومقاوتة معروف مثل أي مدينة في اليمن. لكن سوق عدن ليس كمثله سوق.
كانت جدتي ملكة طه خليل، سيدة في قمة الجدعنة كما يقول إخوتنا المصريون. فهي حملت فوق ظهرها ١٤ نفسًا من ذكور وإناث، وكانت هي الرجل والمرأة في البيت، وكانت تهتم جدًا بوجبة الإفطار. يعني ممكن تلاقيها تصنف تقفز صيرة الساعة ٨ الصبح بعدما يروحوا أولادها وبناتها إلى وظائفهم وجامعاتهم. تروح تجيب وصلتين ديرك بالعدد، وترجع للبيت تفعل أروع صانونة ديرك (طرطرة مع الحمر) وقرصين روتي سندوق شاحط. مثلًا يعني.
كان من أجمل ما يُقال لي: "هيا امشي معي السوق." الجملة التي تعني علي أفندي ومخبازة وحلاوة من عند الصوري، وكم لعبة بالطريق. وأبو الكيلو بايمد لي حبة عمبة علشان الوالدة ملكة.
كان العم علي أفندي من أقرب الأصدقاء للعائلة، وكانت تربطنا به علاقة مودة واحترام عميقة، ولا كنا نركز أبدًا على لهجته التعزية القح، ولا كنا نعلق حتى. كان رجلًا هادئًا جدًا جدًا، ولا تُسمع صوته إلا عندما يكون هناك طلب لمتغدي بالمطعم (واحد نفر خبز رطب مع السمن يا ليد براني)، فيعود لسحنته الهادئة، ولوجهه المبتسم لكل المارين من أمام مخبازته.
كان يرتدي المعوز القصير والكوفية الزنجباري، ويتشح بمشدة على كتفه.
تذكرت العم علي أفندي حين كان صديقًا لأحد أخوالي منذ أن كان شابًا يافعًا يبحث عن فرصة عمل وحياة كريمة. فكان صديقًا لعلي أفندي الذي توطدت علاقتهما رغم مرور الزمن، إذ اغترب وقتها خالي إلى دول الجوار، وظلت تلك العلاقة الجميلة بين العائلة وبين العم علي أفندي.
كنا إذا ما ذهبنا إلى السوق يجب أن نمر على مخبازة العم علي لنخبئ أكياس التسوق في المخبازة حتى نستكمل تسوقنا ونعود مرورًا بالمخبازة، ونستكمل طريق العودة إلى البيت. وطبعًا، لازم جدتي كانت تجزع تشل كيلو تمباك غيلي من عند باطويل، المحل المعروف بالزعفران منذ عقود، وكان يعود للأستاذ الشاعر المرحوم محمد عمر باطويل، الذي أصبح لاحقًا هو شاعر أجمل أعمالي الغنائية التي أظهرتني أساسًا وأعلنتني مطربة رسميًا في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حينها، رغم صغر سني، إذ كان هناك ميلاد صوت عدني جديد ينضم إلى قائمة طويلة من فنانات عدن.
ونعود إلى الزعفران. كنا نخلص مشوار التمباك ونجزع لأحمد اللحجي أبو الفحم، كان دكانه دااااااخل السوق حق الخضرة. دكان مكشوح كده بزاوية وكله أسود والجدران سوداء، والآدمي أسود، ثيابه ملطخة أسود والفوطة سوداء والكوفية سوداء، وكان يتكلم بلهجة لحجية قح. كان يأتي كل يوم من لحج، وكانت جدتي ملكة زبونته العريقة والدائمة، وكنا نشل منه الفحم سلف لا آخر الشهر؛ المهم، المقاضي حق الغداء كانت كل يوم فرش تنطبخ وهي واجية من السوق طازج، الصيد واللحم والدقة لاااازم، جدتي كانت ما تصافط ببطنه، لازم أكل نظيف.
كانت الدنيا بخييييييرررر، ورزق بكرة يجي بيومه، والنفوس راضية، قليل بصراحة مش كثير. كنا نجلس نحش على الحكومة والدولة، نعم، البطاط معدوم. قدوم كان ينعدم على الدولة مع الشعب. مش زي دحين. جمل يعصر وجمل يأكل عصار.
اقرأ أيضاً: علي افندي إبرز أعمدة الزعفران!