العم صالح الملاحي، تاجر في عدن، وبيته العامر في صدر حافة حسين الأثيرة في كريتر.. تحت البيت مكتب أعماله، الحفيص، وهناك، في داخل الحفيص، يقع مبرز القات الشهير الذي كان يضم لفيفًا من شخصيات عدن المرموقة في زمن الرمق الأخير للمرموقين.. هو من رداع، قال الوداع، ولم يودع عدن إلا إلى آخر رمق في عمره الجميل.. لا يوجد أحسن من وجبات العصيد على مائدة أهل رداع الكرام، بشهادة الصديق العقيد محمد الكحلاني، الذي كان يشكل لنا في عزائمه أنواعًا من العصيد، لم أكن أعلم أنها موجودة! كان يضحك عندما أطلب منه ملعقة لآكل بها عصيدة وليمته الساخنة، ليس دلعًا مني، لكنها عادة قد لا تكون حميدة، لازمتني.. والعادات القديمة لا تموت بسهولة!
عند العم صالح الملاحي في بيته بحافة حسين، نتجمع بين الأسبوع والآخر، لتخزين القات.. ويشترط علينا تناول وجبة الغداء عنده قبل القات، كعادة من عادات آخر الرجال الكبار المحترمين.. نتجمع حول مائدة الغداء التي يتصدرها العصيد بمرقته المميزة طيبة المذاق، حاذقة وحراقة.. أما اللحم فقد كان من عاداته القديمة المتبعة منذ الزمن الأول، يقوم بتقديم حصة كل معزوم من اللحم بيده! تذكرت أن أبي، لذكراه الخلود، كان يفعل نفس الشيء مع معازيمه، يمكن كل واحد من المعازيم لحمته بيده.. وأنا الصغير بين الموجودين يخصني بلحمة المقحفة، من كتف الذبيحة، والتي يقال لها بيت اللوح! وكانت تعجبني جدًا.. ولاتزال.. وقد خصني العم صالح بالمقحفة في وليمته الشهية مع العصيدة التي تتشكل بين هريش وجريش وأسماء أخرى لا يحضرني ذكرها.
العم صالح من أشد المعجبين بجمال عبدالناصر.. وعندما كنت في القاهرة في زمن الهجوم على ناصر وزمنه، رأيت أن أنتقي له كتابًا عن "سيدي المشتوم"، من تأليف أنيس منصور، يلعن فيه عبدالناصر وزمنه وتجربته.. وأهديته له.. وقبل أن يقرأه فرح به.. وبعدما قرأه لامني وزعل مني، وقطعه قدام المخزنين في غضب وحماس!
وهناك طرق ربما تكون مسلية ومضحكة عند العزايم وأهلها، يذكرها الصديق محمد ناصر شراء، عما يسمى الفؤاد في الذبيحة، إذ جرت العادة عند أهل عزايم زمان، تكريم ضيف الشرف في قسمة اللحم بتقديم الفؤاد له.. وهو ما نسميه في عدن الحلق الذي يشمل القلب والفشاش وما يتعلق بالحلق من مشتقات، وهو عندي سيئ المذاق، ولا يشجع على الاشتهاء.. صح يا محمد وإلا أنا غلطان؟
ويأتي الدوشان، كما في عادات صنعاء القديمة.. يطرق أبواب الملاحي، ويلقي أناشيد ومحفوظات ينتقيها بعناية كما تقتضي الأحوال، ليحصل على ما يمكنه الحصول عليه من كرم العم صالح الملاحي.. يخرج علينا الدوشان بهلاهيل ثيابه المرصوصة فوق بعضها.. وبعصاه.. وبقصعة يحملها ليطبل بها ويحشيها بما يلقاه من كرم وفادته.. يخرج الدوشان كطيف خرافي من داخل حكاوي المغنين والدراويش.. وينشد.. ونحن في حافة حسين ينقلنا بدروشته إلى صنعاء القديمة بسحرها وعبق تاريخها وناسها الطيبين!
رعاك الله يا ملاحي وأيامك وأمجادك، ورعى الله العصيدة الرداعية في قلب حافة حسين العدنية، وقسمة اللحم العادلة في ولائمك ورواد مبرزك المميزين.. وهو من رداع.. قال الوداع.. وأبحرت في ساعية تحمل جلود البقر.. عا البالة.. والليلة البالة.