منذ ما قبل أن أتعلم القراءة والكتابة، تعلمت كيف أُميّز بين أصوات الرصاص، وكيف أركض عند سماع دويّ القذائف. لم أكن جنديًا، كنت مجرد طفل يمني في شوارع عدن، لكن الوطن، منذ ولادتي، لم يكن سوى مسرحًا دائمًا للحرب.
جيلنا خُلق وسط النيران، وها هو يشيخ في المنافي، يحمل حكاية وطنٍ لم يعرف يومًا طعم السلام.
طفلًا، عشت على وقع الحرب الأهلية بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، تلك الحرب التي اشتعلت قبيل الاستقلال مباشرة عام 1967، حيث تصارعت القوتان على من سيحكم الجنوب بعد انسحاب الاستعمار البريطاني. لم تكن المعركة ضد المستعمر فقط، بل بين شركاء السلاح الذين تحوّلوا فجأة إلى خصوم وقتلة.
ورغم أننا كنا نحتفل برحيل المحتل، إلا أن الدماء التي سالت بين أبناء الوطن الواحد تركت جرحًا لم يلتئم حتى اليوم.
رأيت أول رئيس للجمهورية يُسقطه رفاقه. عرفت مبكرًا أن السلطة في بلادنا لا يحميها شعب ولا يحكمها دستور، بل تتنازعها البنادق.
في شبابي، كانت الحرب بين الشمال والجنوب عام 1972، ثم تكررت عام 1979.
كنا نكبر ونحن نتعلم أن الحروب لا تنتهي، وأن كل محاولة لبناء وطن تسبقها مؤامرة وتليها خيانة.
ثم جاءت الكارثة الكبرى في 13 يناير 1986. كنت حينها طالبًا جامعيًا في أوكرانيا. ما إن اندلعت الأحداث حتى تم فصلي قسرًا من الدراسة، وأُجبرت على العودة إلى عدن. لم يكن في انتظاري هناك سوى الزنزانة.
اقتادوني إلى سجن الصولبان الرهيب، ذلك المكان الذي لا يُنسى، لا بمكانه ولا برائحته ولا بصوت أبوابه الحديدية الثقيلة.
في تلك اللحظة، فهمت أن في وطني يمكن أن تكون ضحية حتى من على بعد آلاف الكيلومترات.
في 1990، وُقّعت الوحدة بين الشطرين، فحلمنا – كما يحلم المحرومون دائمًا – أن المستقبل سيكون مختلفًا. لكن ما لبثنا أن استفقنا على حرب 1994، وانكسار آخر. الجنوب هُزم، والوحدة تحولت إلى غلبة سياسية وقهرٍ اجتماعي، بدل أن تكون مشروعًا وطنيًا جامعًا.
ثم أتت الحرب الأخيرة، التي دخلت عامها العاشر بلا نهاية تلوح. حربٌ تجاوزت الجغرافيا والسياسة، لتصل إلى عمق الإنسان اليمني: تمزق المجتمع، ضاعت الدولة، وتلاشت الثقة، وانهارت الخدمات. كل شيء بات عالقًا بين مليشيات متصارعة، وقوى إقليمية متدافعة، وشعب مقهور لا يُنصت له أحد.
أنا اليوم شيخٌ يمني، أقف في منفاي متكئًا على ذاكرة مثقلة. لم أعرف في حياتي سوى البؤس، والخذلان، والتشريد. عشت كل مراحل عمري وسط الحروب: من الاستقلال إلى الانقلابات، من الوحدة إلى الانقسام، ومن الثورة إلى الزنزانة، ثم إلى المنافي.
لكن ما زال في صدري شيء من الأمل، رغم كل شيء. أحنّ إلى وطني، إلى رائحة ترابه، إلى ضحكات الناس البسيطة، إلى سلام لم نعشه يومًا.
فهل كُتب علينا أن نحيا غرباء عن بلادنا حتى الرمق الأخير؟
أم أن لنا – ولو في خريف العمر – نصيبًا من وطن عادل وآمن؟