صنعاء 19C امطار خفيفة

مشروع إصلاح وتحديث النظام السعودي من منظور الوعي العربي الجمعي

2025-02-01
في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وعند تولي الملك فهد لمقاليد الحكم في السعودية، طرح البريطانيون عليه فكرة إصلاح وتحديث النظام في المملكة، وضرورة الانعتاق عن الأدوات التقليدية والمعطيات الدينية التي تشكل مرتكزات هذا النظام. وكانت فكرة التحديث تلك التي ضغط البريطانيون لفرضها لا تتعلق بطبيعة النظام السياسي الملكي، وإنما بتطوير أدواته وتحديث وعصرنة بناه المؤسسية، وتبيئة فكرة الاقتصاد المعاصر في منهجية الدولة وبنيتها انطلاقًا من مركز المملكة في الاقتصاد النفطي العالمي... إلا أن الملك فهد لم ينصع لتلك المحاولات نتيجة قصور في رؤيته لقراءة المستقبل، وخوفًا من أثر تلك الخطوات على مستقبل النظام الملكي. لكنه، ورغم ذلك، قام بمجموعة بسيطة من التحديثات الهزيلة التي وضعت الأسس والمرتكزات لنظام الحكم في العقود الأربعة الماضية، أهمها إنشاء مجلس شورى، وإعادة هيكلة التقسيمات المتعلقة بالجغرافيا الإدارية، وفي المقابل استحدث لنفسه ومن تلاه رمزية خادم الحرمين الشريفين، في توصيف مركزه السياسي والديني! وصار يدعي ليس ملك المملكة فقط، وإنما خادم الحرمين الشريفين..!
ونتيجة لاحتدام الصراع في أفغانستان آنذاك مع السوفيت، لم يتمكن البريطانيون من فرض رؤيتهم الإصلاحية في المملكة لحاجتهم الماسة لإمكانيات السعودية، وتوظيف تلك المكنات في الحرب الأفغانية، سواء المكنات الأيديولوجية السلفية أو المادية. وهكذا ظل النظام السعودي على ذلك الحال، حبيس أيديولوجيته الدينية السلفية النكوصية المنتجة بكل الأحوال للفكر الإرهابي وجماعاته الممولة من داخله، لدرجة أن الغرب بات يرى في استمرار النظام السعودي بهذه الكيفية، عبئًا من نوع ما على مشاريعهم في المنطقة، ومهددًا بقنواته الممولة للإرهاب مصالحهم العالمية!
وفي 20011م، إبان اندلاع الربيع العربي، ظهر تباين بين الموقف الأمريكي والموقف البريطاني تجاه النظام السعودي، ففي حين كان الأمريكان ماضين في خطوات زعزعة النظام السعودي عبر توظيف الحراك الشعبوي والسياسي في المنطقة، وفوضاها الخلاقة، ليس لإسقاطه، وإنما لإعادة هيكلته، وفتح مسارات تفكيكية تسلخه من عباءة الرمزية الدينية للمقدسات التي يستقوي بعمق تأثيرها، وإعادة النظر أيضًا في جغرافية المملكة، إلا أن البريطانيين، وهم عرابو سياسات الغرب في مجتمعات الشرق، عارضوا مثل هذا النهج؛ لإدراكهم العميق بعدم القدرة على ضبط ألياته، واستيعاب تداعياته، وإقناع الأمريكان بتأجيل الفكرة، والتفكير بمشروع وخطة إصلاح وتحديث في السنوات القادمة... وهو ما بدأ يتحقق مع صعود محمد بن سلمان لولاية العهد، وتنحية الصف الأول من ملوك العائلة بطريقة واضحة تعبر عن تدشين تلك الفكرة، وتمكين محمد بن سلمان الذي جيء به لهذا الهدف، من الإمساك الكلي بتلابيب الحكم وكل أدواته. وسرعان ما بدأ الشاب المتقد الإطاحة الصامتة والهادئة، برجال الحكم ورجال الدين، وبدأ مشروع تحديثات وإصلاحات ممنهج تنموي اقتصادي كبير، هذا على الصعيد الداخلي، وعلى صعيد الخارج، أعلنت السعودية فك ارتباطها مع بعض القضايا والملفات الإقليمية والدولية، لا سيما ما هو مرتبط بالجماعات السلفية، وتمويل أنشطتها، وكذلك على صعيد إعادة قراءة منهجية التعامل مع الملفات العربية، وأيضًا إسرائيل، والتزامات الملف الفلسطيني. كما أبدت انفتاحًا تجاه كل من الصين وروسيا وإيران وتركيا، وانضمامها كعضو مراقب في بريكس، واضطلاعها بتمويل مشاريع الحفاظ على البيئة، وغير ذلك من الملفات والقضايا التي لم تكن سابقًا على أية صلة بها بقدر ما كانت صندوق تمويل سري للإرهاب، وإنتاج الفكر الديني السلفي المضاد لحركة التطور التاريخي، والخادم آنذاك لتطلعات الغرب في المنطقة!
 

مشروع إصلاح وتحديث نتيجة للحاجة الوطنية ومحكوم بأدواته وعوامله الداخلية أم...؟

 
حاول النظام السعودي ونخبته الجديدة، فور وصول محمد بن سلمان، تصوير الحراك في المملكة على أنه استجابة لمتطلبات وطنية حتمية داخلية، ومحكوم بأدوات الدولة والمجتمع، وقد ساعد البريطانيون والأمريكان النظام في تعميق هذه الفكرة، وتصويرها، وتسويقها للرأي العام، من خلال ترك مساحة غير مسبوقة للقرار للسعودي في صياغة علاقاته الخارجية، بخاصة مع الصين والروس، وكذلك إعادة تموضعه الإيجابي المدروس داخل منظمة أوبك، بخاصة مع اندلاع الحرب الأوكرانية.. كما قامت المنظومة الغربية عبر أدواتها الإعلامية والسياسية، بالترويج لمشروع المملكة، وتسليط الضوء على مرتكزاته الاقتصادية ذات النزوع الاستثماري، كل ذلك ساعد مع مجموعة التغييرات الداخلية التي عملت على تفكيك البني التقليدية والدينية، وإطلاق مشاريع براقة كاسحة في القطاعات الفنية والسياحية والرياضية، وتدشين مشاريع اقتصادية استثمارية كبرى، على رأسها مدينة نيوم، وكذلك إعادة تموضع النظام مع القضايا العربية من خلال أدواته الدبلوماسية والسياسية التي فعلها وفق رؤية منهجية جديدة عبرت عن دعم النظام للاستقرار في المنطقة، والجنوح نحو رعاية الحلول السلمية للصراعات، كما تجسد ذلك في تونس وليبيا، ومؤخرًا السودان واليمن، مع سبق تورطها في الملف اليمني على عكس منهجيتها الجديدة.
كل تلك العوامل مجتمعة، إضافة إلى الترويج الإعلامي الغربي، وعمليات غسيل السمعة التي مورست في بعض الفعاليات، جعلت النخب العربية سواء السياسية أو الثقافية، ترى في مشروع تحديث النظام السعودي أملًا جديدًا يستحق الالتفاف حوله ومساندته، والإيمان به رغم كل التراكمات التي تحتل الذاكرة العربية واليقينيات السياسية السلبية تجاه النظام السعودي وممارساته السابقة.. إلا أنه، رغم هذا التفاعل والتفاؤل، فإن الوعي العربي الجمعي مازال منقسمًا تجاه هذا المشروع، ففي الوقت الذي يرى فيه الجيل العربي الجديد أن المشروع انبثق ضمن رؤية وحاجة سعودية ومحكوم بأدواته وعوامله الداخلية، ويعتبرونه نواة لبلورة مساحات وفاق رؤيوية ومؤسسية لموقف عربي موحد تجاه قضاياه وقضايا العصر.. بينما لايزال الوعي العربي الأوسع والمتحصل من تراكمات تجارب سابقة مع النظام السعودي، على الأقل في العقود الخمسة الماضية، يرى أن هذا المشروع هو خطوة فرضتها المنظومة الغربية على النظام السعودي وفقًا لحاجاتهم ومتطلبات مصالحهم العالمية، وكان اللجوء إليه وفرضه من قبل البريطانيين أمرًا حتميًا لإدراكهم تمامًا بعدم وجود أي بديل أو فكرة أخرى للتعامل مع المملكة بشكل تفكيكي أو تقويضي، كما هو حال بلدان أخرى، انطلاقًا من ارتباط النظام بالرمزية العميقة للمقدسات الدينية، وبالتالي فإن هذا الجزء من الوعي العربي الجمعي، وهو الأغلب، يرى في كل ما يجري استجابة لرغبة غربية، وخدمة لمصالح عالمية كبرى، أكثر منه خدمة للسعودية والمملكة، لكنهم في الوقت ذاته لا يتخذون موقفًا مناهضًا أو تحريضيًا لهذا المشروع، حتى وإن كان لديهم يقين بعدم خدمته للقضايا العربية، لكنه في أضعف الأحوال وضع حدًا دون استمرار إنتاج ثقافة العنف الديني وتصديرها في المجتمعات العربية والعالم، وإن التقليل من هيمنة الأدوات الدينية لصالح أدوات الاقتصاد والمصالح المرتبطة به، وإطلاق مشاريع الفن والرياضة والسياحة، سينعكس إيجابًا على المملكة والمجتمعات الإقليمية المحيطة.. وبالتالي فإن هذا الموقف أشبه بموقف الغريق الذي يتمسك بقشة!
 

الاختبارات الكبرى أمام المشروع

 
أيًا كانت القراءات تجاه المشروع التحديثي السعودي من حيث دوافعه والأدوات والمصالح الناظمة والحاكمة له، فإنه مقارنة بما كانت عليه المملكة سابقًا ستكون مخرجاته إن لم تكن ذات فائدة كبيرة، فإنها حتمًا ستحول دون استمرار تغول القوى الدينية على الشعوب، وكذلك دون استمرار تصاعد وتراكم الفكر والأيديولوجيا الإرهابية والعنقية.. إضافة إلى أن إعادة تموضع النظام السعودي من بعض القضايا الإقليمية والعالمية على نحو إيجابي، وإن كان ذلك ضمن ما هو مصرح له، فإن ذلك أفضل بكثير مما كان عليه النظام ومخرجات مواقفه القديمة من تلك القضايا والملفات.
وفي الأخير، وهو الأهم، فإن منهجية النظام السعودي ورؤيته المعلنة تجاه القضية الفلسطينية، هي المعيار والأهم والحاسم في هذا السياق، فإذا استطاع ومعه المصريون وبقية العرب، إنجاز تسوية للقضية العربية المركزية بإعلان دولة فلسطينية، وفق محددات المبادرة العربية أو حتى أقل منها، مقابل التطبيع، فذلك سيكون بمثابة الاختبار الحقيقي الذي سيحدد الوعي العربي وفق نتائجه مدى تموضعه وثقته بهذا المشروع، وإن أخفق في ذلك فإن مجمل تفاعلاته لا تعدو إلا أن تكون مجرد تفاعلات وتغييرات جاءت بأمر غربي، ولخدمة مصالح غربية عالمية كبرى، وحتى وإن كان مع ذلك سيسهم في إحداث نقلة تنموية وتحديثية في السعودية، فهذا ليس كافيًا انطلاقًا من كون السعودية بعد الربيع العربي تقدم نفسها ويقدمها الغرب كذلك كحامل أول لقضايا العرب والمنطقة، بخاصة قضية فلسطين المركزية، وبات واضحًا اليوم كيف احتلت السعودية المساحة الدبلوماسية والسياسية تجاه تلك القضية التي تعد قضية العرب الأولى على حساب مصر في الآونة الأخيرة، والتي أبدت تقبلًا وتكاملًا مع هذا الحال!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً