أرجوك قم بتشغيل موسيقى هادئة، فقد سئمت الضجيج، لقد مررت بالكثير من الصراعات أثناء رحلتي إليك، كدت أفقدني فيها. اقرأني مع احتسائك قهوتك، أحسن ضيافتي وامنحني شرف احتياز انتباهك لدقائق؛ لستُ متطلبًا متبجحًا، لكن ولادتي لم تكن سهلة، هل تصدق أن مخاضي تطلب أشهرًا؟ أنا على قلب والدتي بمنزلة الطفل على قلب أمه، ولأبدو أمامك بكينونتي هذه اضطررت لمشاركة والدتي رحلتها في كتابتي، إنني من شد عضدها ومنحها الدافع لتتشبث بهويتها تمامًا كتأثير الأطفال على أمهاتهم.
ما أسهل الكتابة وما أصعبها! منذ أشهر وأمي تحاول صقلي كنصٍّ جميل؛ مقال، قصة، خاطرة... تسجل عنوانًا لفكرتي الرئيسية، تتفرع عناوين صغيرة، تمتلئ الصفحة بما يشبه شبكة عنكبوت، أُحاصرُ فيها ويلتهمني اللاشيء.
أسمعُ والدتي تتساءل إن كانت فقدت موهبتها؟ الملَكة التي كانت تميزها يومًا ما؟ هل فقدت القدرة على التقاط الإلهام من حولها لتنجب نصًا جميلًا؟
أذهب معها في نزهاتها التأملية، أمسح الغابات والشواطئ بحواس متقدة، أقطع المسافات الطويلة توسلًا لهذا الإلهام، أقاوح استسلامي بكبريائي، وأستميت في إغراء عقلها بجمال ما حولنا علَّ شيئًا يستفز قريحتها، فتنهي كتابتي.
لا أخفيك بأني كثيرًا ما استشطتُ غيظًا حين تعود خائبة. وما أسوأ خيبة الأمل حين تكون في أقرب الناس، لكني في الوقت ذاته كنت أشفق عليها، ما عساها تفعل؟ إنها تحاول، وهذا حسبها. قال الأوائل إن أخطر أعداء المرء نفسه؛ فخذلانك قد يهزمك حين تعجز كل القوى حولك، يا الله ما أقسى اليأس من الذات! لطالما خشيت على والدتي هذا المصير.
قد يبقى البال مشغولًا لأيام وأشهر وسنوات، بحثًا عن إجابة، لالتقاط إشارة أو خيط يرشده إلى الطريق الصحيح، أو على الأقل إلى منطقة مريحة، أنستمر أم ننهي هذا الاستنزاف؟ ربما لم أعد نصًا، ربما لم تعد والدتي كاتبة، ألم يئن الأوان لهذه المواجهة مع الذات أن تتوقف؟ ويا سلام حين يجتمع الصراع مع الضياع، وكأن الدنيا جمعت المتردية والنطيحة للنيل منك.
في حالة كهذه، ستترك نفسك للروتين والالتزامات اللحظية، ستواسي نفسك بأنك أفضل من غيرك، وأنك على الأقل لاتزال متماسكًا، وأن لا ضير من استراحة محارب و.. "بنشوف نهايتها لفين". ودون سابق إنذار، تومض أمامك فكرة أو إجابة لطيفة، كيدٍ حانية، كفيلة بإنهاء صراعك، ستتردد في قبولها بسبب الإخفاقات المتكررة التي مررت بها، وستجسد القول الدوستويفسكي: "الأرواح التي اعتادت القلق، تجد الطمأنينة فخًا لها". وبدلًا من أن "ترتاح وتريح"، تدخل صراعًا على صراعك، وكأنك تأبى إلا نيل المتردية والنطيحة منك!
أن أُكون نصًا متماسكًا وجميلًا وذا قيمة مهمة شاقة، وتتطلب عقلًا منظمًا وتركيزًا عاليًا. وفي عصر التكنولوجيا والإلهاء المستمر، يعد إنهائي، سواء في يوم أو أيام، إنجازًا. القضايا التي تستحق الكتابة عنها، كثيرة، لكن لا أحد يعرف كم معركة عاطفية، وكم عملية حسابية وبحثية خاضها دماغك لتكتبني. أنت تعلم أن الناس في عصر السرعة لم يعودوا يفضلون قراءة المقالات الطويلة، وعلى الأرجح أنت مثلهم، ولا تريد أن تكرر ما كتبه غيرك، فكلما كنتَ كاتبًا محترمًا (أو هكذا تظن نفسك)، زاد تواضعك، وأدركت أنك لن تأتي بـ"التايهة"، وطبيعي أن تفقد إيمانك بأهمية رؤيتك للأمور أحيانًا، وطبيعي أيضًا أن يأخذك الحماس و"تجيب العيد"، أنت لست روبوت، وكتاباتك لن تكون نصوصًا مقدسة، إنها انعكاس لاهتماماتك ووعيك وعواطفك وحالتك المزاجية وصدماتك الشخصية ورحلات تشافيك. ومع وعيك بكل هذا تدخل نفق الانتقائية حتى تفقد قدرتك على الكتابة!
في النهاية، إن كان ثمة شيء أود تركه لك من هذه الزيارة، فهو امتناني لحسن تعاطيك مع كل ما حولك من جنون وخيبات، الحياة قاسية، وطوبى لك حين تخفف من وطأة قسوتها عليك وعلى من حولك. أنت لست بحاجة إلى مطاردة الإلهام، عزز نواياك الطيبة، فهي كفيلة بإلهامك دائمًا لفعل الصواب.