انتهت التجربة البعثية، كآخر التجارب القومية الكُبرى التي حكمت دولًا رئيسية كسوريا، والعراق، كان سبقها -قبل، وخلال انطلاقة الربيع العربي- تغيرات بنيوية في المجتمعات العربية، تراجع فيها فاعلية، وتأثير الخطاب التقليدي القومي، وما بقي من إرث الانقسامات داخل الحركات القومية لصالح خطاب ديني يُضفي على أصحابهِ شرعية أخلاقية، استطاع الحشد، والتأثير، بل نجح في إيجاد توازن مع بعض التيارات الليبرالية، عبر تركيزه على أهمية الدولة القُطرية كأولوية وطنية.
تمت تهيئة مركز الثقل في المنطقة -بعد الربيع العربي- للإسلام السياسي كهوية بديلة في وسط من الفراغ السياسي، ومحدودية في البدائل، واستطاع تولي الحكم بشكل مباشر، وجزئي، لكنه لم يستطع تحقيق استمرارية سياسية. اظهر مرونة في تونس بعد تنحي حزب النهضة بعامين، وبقائه ضمن شراكة سياسية، وانتهت التجربة كليًا في مصر بعد عام واحد، ومع صعود محدود وفوضى مستمرة في اليمن، وليبيا لم يستطع السيطرة على السلطة بشكل كامل في ظل النزاع المسلح، وباعتبار صعود هيئة تحرير الشام حالة مغايرة من حيث وسيلة الوصول إلى السلطة، والأسلوب، والتوجه، يتبادر إلى الأذهان سؤال جوهري بعد حلّ النظام السوري السابق، كيف ستعيد سوريا تشكيل هويتها السياسية، والاجتماعية؟
فرضية التحول السياسي
هيئة تحرير الشام التي نشأت كفرع لتنظيم القاعدة، ما كان يعرف سابقًا بجبهة النصرة، تحمل أيديولوجية إسلامية جهادية متشددة تتعارض مع قيم الديمقراطية، والتعددية، تشهد إمكانية التحول إلى كيان سياسي يتبنى خطابًا براغماتيًا يوازن بين الشريعة ومتطلبات الدولة الحديثة، للتخفيف من تصنيفها كمنظمة إرهابية، وتجنب العزلة الدولية، واستلهامًا لنموذج حركة طالبان في أفغانستان، التي تحولت إلى كيان سياسي بعد سنوات من الجهاد المسلح، مع وجود اختلافات في البيئة الإقليمية المتنافسة، واختلافات أخرى ضمن النطاق المحلي، حيث عملت الأولى ضمن سياق دولة موحدة، بينما تقف الهيئة أمام تحديات إعادة توحيد سوريا، كما أن طالبان تحركت ضمن إطار قومي محدود وشعب متجانس نسبيًا، بينما هيئة تحرير الشام تواجه تعقيدًا اجتماعيًا وطائفيًا كبيرًا في سوريا، مما يجعل القبول الشعبي أصعب.
يظل نجاح هذا التحول فرضية ممكنة رغم أنه سيواجه مجموعة معقدة من التحديات التي تتجاوز الأبعاد التقليدية، محفوفة بمخاطر الانشقاقات الداخلية من قبل العناصر الأكثر تشددًا، والتي قد ترى في هذا التحول خيانة لمبادئها الجهادية، مما يسمح بالعودة إلى دائرة الصراع مجددًا، بالإضافة إلى سيناريو التصعيد العسكري المحتمل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؛ القوة العسكرية، والسياسية، ذات الأغلبية الكردية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أحسن التوقعات إذا تم التوصل إلى صيغة سياسية، ستدير الهيئة المركز، وتحتفظ "قسد" بحكم ذاتي في الشمال الشرقي، وتشكل هوية سياسية جديدة تراعي التنوع الطائفي والعرقي، على غرار النماذج الفيدرالية. ويبقى سيناريو المواجهة مع "قسد" معلقًا، ومرتبطًا بشكل التعاون الضمني، والتنسيق العسكري غير المباشر مع أنقرة.
القضية الفلسطينية ومسار التطبيع
الموقف السوري من القضية الفلسطينية كان موقفًا تقليديًا قائمًا على أسس قومية، وعربية، يرى في فلسطين قضية مركزية للعرب، وعلى الرغم من ذلك لم يكن دعمًا مطلقًا، بل كان دعمًا انتقائيًا يخضع لحسابات مرتبطة بمصالحهِ الإقليمية، فاتفق حافظ الأسد مع بعض الفصائل، وعارض أخرى، واستمرت القضية كجزء من الخطاب السياسي لبشار الأسد أيضًا. وعلى الرغم من أن الدولة السورية قدمت دعمًا سياسيًا، وعسكريًا لحركة حماس منذ انتقال قيادتها إلى دمشق، مطلع الألفية، لكنها شهدت قطيعة منذ بداية تأييد حماس للثورة السورية، وعادت بصورة مفاجئة من خلال التأييد، والدعم الوجستي في حرب غزة الأخيرة، ضمن ما يعرف بمحور المقاومة؛ الظاهرة السياسية والأيديولوجية المتشابكة -التي تتجاوز الأطر القومية التقليدية، وتلتقي معها- والتي من المؤكد أن النظام السوري قد دفع ثمن شراكته معها ابتداءً بالعقوبات الاقتصادية، وانتهاءً بسقوطه.
على الرغم من كون الجولان يمثل رمزًا للسيادة السورية، لم تستخدم سلطة الأمر الواقع السورية هذه القضية لتعزيز شرعيتها الوطنية، ولم تتبنَّ خطابًا جريئًا من تدمير مقدرات الجيش العربي السوري، واحتلال المنطقة العازلة، وقمم جبل الشيخ الذي يحمل ما هو أكبر من كونه نظام الإنذار المبكر الاستراتيجي للاحتلال، وعين مراقبة على الأردن، سوريا، ولبنان، لكنه أيضًا ذو بُعد ديني -أصولي في الرواية اليهودية، رغم ذلك تجنبت الإدارة السورية أية مواجهة مكلفة قد تضعف سلطتها الوليدة، ولو كان اعتراضًا خجولًا بالمواقف الإنشائية الرمزية.
في ظل فقدان الشرعية الشعبية للتطبيع مع إسرائيل، يستمر التسويق للتطبيع كخيار استراتيجي لتحقيق السلام، وعلاقة سوريا الجديدة مع تركيا، ودول الخليج، تفتح باب الاحتمالات أمام شكل الدور السوري المستقبلي في عملية الانفتاح التدريجي نحو مسار التطبيع، بخاصة إذا ذهبت السعودية نحو عملية تطبيع مشروطة.
السابع من اكتوبرالمحطة المفصلية في سياق الصراع العربي -الإسرائيلي، سيظل تاريخًا جدليًا حول إذا ما كان قد عزز القضية الفلسطينية، أم زاد من تعقيداتها، إذا كان ضرورة فرضتها حالة الجمود السياسي، أم خطوة انتحارية تكلفتها البشرية تتجاوز أي مكاسب محتملة، لكن المؤكد أنها زادت من حدة التوترات الإقليمية، والانقسامات الداخلية في المنطقة، وستظل سوريا في مرحلة انتقالية معقدة، يتراوح فيها المستقبل بين التعددية والفيدرالية، وبين استمرارية الصراع، والانقسامات، متشابكًا ومفتوحًا على عدة سيناريوهات.