صنعاء 19C امطار خفيفة

قراءة في ديوان الخفنجي

«سلافة العدس ولب العلس في المضحكات والدلس»

في المقدمة يزمِّن المحقق الدكتور إبراهيم محمد أبو طالب المدة التي ابتدأ فيها الأدباء والمهتمون بتداول الديوان والاحتفاظ به وحفظ معظم أشعاره بـ 300 سنة.

ويشير إلى أنَّ النساخين اختاروا أشعاره وأشعار قرينه أحمد شرف الدين الملقب بـ «القاره»، كما يشير إلى كتاب الأستاذ أحمد حسين شرف الدين (الطرائف المختارة في شعر الخفنجي والقارة)؛ وهو عبارة عن مختارات مجتزأة من هذين الديوانين.

 

ديوان الخفنجي

 

يؤكد المحقق أنَّ الديوان ظل هاجسًا مُلِحًّا لتحقيقه. وكبراءة للذمة والتزامًا بالأمانة العلمية يذكر  في الهامش أنه عند الانتهاء من تحقيق الديوان وقف على مقالة كتبها عبد الملك محمد المقحفي بعنوان «نظرات  في واقع المخطوطات باليمن»؛ مفادها أنَّ الديوان قد حققه محمد بن محمد الأنسي لقسم الدراسات العليا، وينفي المحقق وجود قسم للدراسات العليا بجامعة القاهرة سنة 1982، وأنه لم يطلع على هذا التحقيق، ولم يخرج  في كتاب ولم ينشر.

والحقيقة أنَّ مثل هذا التحقيق لم يطلع عليه أحد من المهتمين.

يشير المحقق إلى كثرة سماعه في مجالس العلم والأوساط المختلفة اسم الخفنجي وموهبته الشعرية، وأنه قد حفظ بعضًا من قصائده بتوجيه من جده القاضي عبد الرحمن أبو طالب.

لفت انتباهه أنَّ كبار المؤرخين واللغويين والأدباء والنقاد قد اعتنوا بشعره. ويشير إلى ما أورده الأستاذ مطهر الإرياني في كتابه «المعجم اليمني في اللغة والتراث» حول مفردات من اللهجات اليمنية.

كما يشير إلى ما كتبه الدكتور عبد العزيز المقالح في كتابه «شعر العامية في اليمن»، والأستاذ عبد الله البردوني في «رحلة في الشعر اليمني قديمة وحديثه»، وأنَّ للأديب الشاعر أحمد بن محمد الشامي تعليقات وإضافات مهمة على كتاب البردوني حول الرجل وشعره وبعض القضايا المتعلقة به.

ويأتي على ذكر الدكتور عباس السوسوة الذي اشتغل بـ «دوادين: الخفنجي، والقاره، والعنسي» في التأصيل لبعض الظواهر الصرفية والنحوية؛ مشيرًا إلى كتب الدكتور عباس التي تناولت جوانب من شعر الخفنجي، ويذكر الرسائل التي أشرف عليها الدكتور عباس بجامعة تعز.

وبتواضع العالم يجعل جهود كل من سبقه الأرضية الصالحة والدافع للرغبة في تحقيق الديوان ضمن مشروع لتحقيق عدد من الدواوين التي ينوي الاشتغال عليها لدراسة الأدب الشعبي؛ لما فيه من ثراء إنساني، وإبداع حقيقي يتأبى على الضياع، ويقاوم الفناء، واحتفظت به الذائقة الشعبية؛ دلالة على مكانته وقيمته الفنية، والاجتماعية، والثقافية، واللغوية.

ثم يحدد الدكتور دوافع التحقيق، وسأشير إليها بإيجاز:

1- مكانة الشاعر الأدبية، وقدرته الفنية على الرسم والتصوير لمجتمعه، وقضايا عصره.

2- ما تميزت به لغته من خصوصية رصد فيها لهجة مدينة صنعاء قبل ثلاثة قرون.

3- روحه الشاعرة، ومقدرته على رسم الصور الأدبية بخفة روح وظرافة وسخرية.

4- استمرار شعره وقدرته على البقاء عبر الأجيال.

5- مشاركته لأدباء عصره وما يليه من الشعراء.

6- يؤكد المحقق على بقاء شعره الساخر الماجن والمضحك، ويتساءل: لماذا بقي شعر الخفنجي ماثلاً متداولاً حاضراً رافضًا للضياع؟!

7-  سحر تفرده، واختلافه، وطريقته الساخرة  في رصد قضايا مجتمعه المتعددة.

8- ثقافة الخفنجي، ومعرفته بالأعلام من الأدباء والشعراء، وفنون البيان.

9- استخدامه للتشبيهات والاستعارات وفنون البيان.

10- المخطوطات الكثيرة من الديوان.

11- اهتمام الشاعر بالظواهر الاجتماعية وبالعادات والتقاليد.

12- معارضته للقصائد الشهيرة  في عصور مختلفة، وبالأخص قصائد شعراء الحميني، وتحويل معانيها الغزلية إلى سخرية. ويتساءل المحقق: هل بلغ الخفنجي من الرؤية ما يُشكِّل ثورة على ذلك النمط من الشعر الذي تشبع به الوجدان الشعبي؟! (والواقع أنَّ جُلَّ الشعراء الذين يتمسخر بهم، والأغاني الراقية، والعاطفية المدغدغة للمشاعر، والمعبرة عن الترف والتنعم، تقابلها حالات من البؤس والشقاء حَدَّ التعاسة لدى فئات وشرائح واسعة من البؤساء والمقهورين يعبر عنهم الخفنجي- وهو من عِلِّية القوم- بإحساس البائس المقهور الذي يعتبر وصف المفاتن والدل، والدن والراح استفزازًا لمشاعره، وسخرية يقابلها الخفنجي العاِلم بأسرار الحياة، ومشاعر الترف، وإحساسه العميق بالمعاناة والتعاسة يتحول إلى سخرية؛ فهو يدرك الحالتين، وكأنه يرد على المترفين بالهزء، والضحك). [القارئ]. وهو ما أدركه المحقق الناقد في رقم (13) من قراءته المائزة؛ فهو يرى أنَّ سخرية الخفنجي ليست عبثية، ولكنها -كرؤيته- تحمل في طياتها عُمقًا، وفلسفة خاصة لكي تفضح المسكوت عنه، وتبرزه وتواجهه مواجهةً ناقدة لاذعة للتخلص منه أو تعريته.

14-  يمكن من خلال شعره تأمل قضايا فكرية ودينية جليِّة كانت موجودة قبل عصره، واستمرت: فضحه الرياء، وادعاء العلم، وطريقة الصلاة كالضم والإسبال، وطبيعة التدين. ويشير محقًا إلى تَقبُّله للمذاهب، وقبول الاختلاف، والتعايش. فتفكيره ناضج، وحكمته بالغة، وإصلاحه حقيقي؛ فهو من العلماء المطلعين والأدباء العارفين.

15- يرى محقًا أنَّ الخفنجي كان مثقفًا كبيرًا، وأنَّ ميوله إلى الشعر الشعبي يرجع إلى نفسيته الساخرة، وإلى بيئةٍ تمتلك القدرة على التقبل. فقابليته البيئة أثرها عظيم. ويعتبر كل ذلك دافعًا قويًّا للتحقيق. ثم يشير إلى بداية الإعداد بجمع المخطوطات، والعمل الدائب والمتأني، والكتابة على الحاسوب، والاعتناء بالمفردات، والمراجعة، والقراءة. وبعد الانتهاء عهد به إلى الأستاذين: عباس السوسوة، وعبد الله الحبشي؛ معتبرًا قراءتهما نافعة.

 

يقسم المحقق العمل إلى مرحلتين:

 

أولًا: الدراسة، وثانيًا: الديوان

في الدراسة يتناول اسم الشاعر ولقبه. فالخفنجي ليس علمًا لأسرته، ويدرس المفردة في معاجم اللغة، ويدرس مكانة الشاعر الأدبية، وظرافته، وما كتب المؤرخون والمترجمون له، وما قيل عنه.

ويشير إلى مطارحته: الأديب أحمد بن محمد أبو طالب الحسني الملقب (شغدر الروضي)، والشاعر الحسن بن أحمد الفسيل، والأديب عبد الله بن الحسين الشامي.

ويتناول ما كتبه عنه وعن ديوانه محمد بن محمد زباره، وما أشار إليه الأستاذ عبد السلام عباس الوجيه، وتصحيحات الشامي، ومختارات العلامة أحمد بن حسين شرف الدين.

ويشير إلى ما تناوله المؤرخ الكبير زباره من قصائد «المحاورة بين بير العزب والروضة»، و «المفاخرة بين العجائز والبنات».

وممن ترجم له عبد الملك بن أحمد بن قاسم حميد الدين في كتابه «الروض الأغن»، وما قاله عنه القاضي محمد بن أحمد الحجري، ووصف الدكتور المقالح، وأحمد محمد الشامي، ويأتي على تناول «شهادة أدباء عصره عنه»؛ فيتناول ما كتبه المؤرخ زبارة، وقراءات بعض المعاصرين عن شعره؛ موردًا العديد من القصائد، وآراء بعض النقاد، ومصادر ترجمته، وعنوان الديوان، وبعض التحفظات على شعره؛ مستطردًا عن الضحك والسخرية والفكاهة.

يتناول المحقق التحفظ على خروج الشاعر على المواضعات الاجتماعية، وتحديدًا الجنس، والأعضاء التناسلية.

وفي حقيقة الأمر، فقد كان الجاحظ أول من سَخِرَ من الذين يتعففون عن الحديث عن الجنس، وقد سبقه عبد الله بن عباس الذي أنشد  في الحرم المكي وهو محرم بالحج:

وهُنَّ يمشين بنا هميسًا* أن يطلع الفجر نَنِكْ لميسا

وقد ذكرها عن ابن عباس جل المفسرين عند تفسير (الرفث) من قوله تعالى:

(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). [البقرة: 197].

 وقد ألف الإمام الجاحظ «العرس والعرائس»؛ وهو أول مؤلف في الجنس، ولكاتب الدولة الرسولية أول وأهم موسوعة جنسية «رشد اللبيب في مسامرة الحبيب»، وقاضيان من علماء المسلمين هما: القاضي محمد بن محمد النفزاوي كتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر»؛ وهو الكتاب الذي دونه باسمه وسماه رجوع «الشيخ إلى صباه في القوة والباه» أحمد بن سليمان بن كمال باشا؛ مضيفًا إليه فصلاً للأدوية المقوية للباءة.

أمَّا جلال الدين السيوطي فألف أكثر من عشرين مؤلفاً أشهرها «نواضر الأيك في معرفة النيك»، والدكتور حسن أحمد جغام رسالته عن «الجنس في أعمال جلال الدين السيوطي»، رسالة دكتوراه.

وأذكر بالمناسبة قصةً طريفة، فقد استضاف الرئيس أحمد حسين الغشمي في منزله بضلاع عددًا من الأدباء والكتاب على شرف الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وفي مقيل القات طلب الغشمي من البردوني أن يسمعه من شعره، فردَّ البردوني أنه لا يحفظ شعره، ولكنه يحفظ شعراً للخفنجي، وقرأ أبياته:

يقول علي يا ناسْ عندي خبرْ

فرج المرهْ بيتَ الخيانهْ

فاحذر تزوج لو تكونْ كالقمرْ

إلا إذا بهْ شِيْ أمانهْ 

ثم يستطرد:

فاصبر على زُبَّكْ وإلا اقطعهْ

وعيش على الدنيا طواشيْ

وازقمْ براسهْ باليسار واقلعِهْ

من أصل عِرْقهْ والحواشيْ

ولا تقلْ مسكينْ شاتوجعهْ

فكم اتبقى له تراشي! 

كل الغثا من تحت رأسَ الذكرْ

أصل الدياثِهْ والهيانِهْ 

ومن تحت رأسهْ قد لقيت العَنَا

حنبتْ بالزُبّ المعسَّبْ

يقوم من قبل ما اقوم انا!

وارقدْ وهو عادِهْ مسنِّبْ!

وغايته ما زيدْ دريت ما البنا؟

أصبحت من هَولهْ مشيِّبْ 

موذي، وَسِخْ، فلاَّح عليه الزَقَرْ

أُفيِّهْ عليه كم فيه شطانهْ!

ويذكر الجاحظ أنَّ "بعض الناس إذا انتهى إلى ذكر الحِر، والأير، والنيك، ارتدع، وأظهر التقزز، واستعمل باب الورع، وأكثر من تجدهم كذلك فإنَّما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بهذا القدر من التصنع، ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلا عن لؤم مستعمل، ونذالة متمكنة". (الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الملقب بالجاحظ، المجلد الأول، ص 376، شرح وتحقيق يحيى الشامي، منشورات دار ومكتبة الهلال).

يُشَار  في الديوان إلى لفظة «الزب» بثلاث نقاط؛ فهل هو التزامٌ بالأصل المُحَقَّق، أم هو تحرجٌ وتأثمٌ من المحقق؟

يسرد المحقق نماذج عديدة لكتب الفكاهة والإضحاك، ولبعض مؤلفات الجنس في المؤلفات الإسلامية. وما أكثرها!

وهناك رسائل الجاحظ بها نماذج للمفاخرة ما بين: «الغلمان والجواري»، و«البطن والظهر».

ومن يقرأ بعض كتب الفقه الإسلامي المطولة في أبواب الطهارة، والغسل يجد العجب العجاب.

ويتجلى الجهد الرائع للمحقق في وصف المخطوطات، وخاصةً مخطوطة العلامة محمد بن محمد المنصور، والمخطوطة الأم، للعلامة السيد علي بن إسماعيل المؤيد، والمكتوبة بخط محمد بن محمد الجرافي.

كما يدون تعليقات العلامة المنصور وجهده في نسخ المخطوطة؛ وهي تعليقات مفيدة كما أشار المحقق، وتدل -كما قال- على حِسٍّ أدبي رفيع، ومعرفة بخصائص اللهجة الصنعانية؛ مدونًا اعتذاره واستغفاره  في الأخير؛ مشيدًا بحرص الناسخ، ومعرفته وفهمه؛ ولأنه حق من حقوقه، وأنَّ حرصه على قيد وضبط وتسجيل لغة صنعاء ولهجتها في عصر الخفجي والقاره، وأنها ليست مؤاثرة على اللغة العربية.

وأنَّ لهجة صنعاء لا تنافي الفصحى، ولا تجافيها؛ مشددًا -ومعه كل الحق- على جمال لهجة صنعاء، ورقتها وعذوبتها.

ويحدد أمرين للاهتمام بالعامية:

أولهما: أن نعرف ما كان الناس عليه في عصورهم المختلفة، وكيف كانت الصورة المتكاملة لحياتهم، وهل تطورت أساليب الحياة بيننا وبينهم أم لا؟

وثانيهما: أنَّ ضعاف العقول والشخصيات والنفوس في كل مكان وزمان مغرمون بالتقليد ومحاكاة الغير إذا قُدَّر لهم أن يعرفوه قويًا في نظرهم، أو تغربوا عن أوطانهم، ولابد أن تغزو صنعاء كلمات ولهجات يستوردها هؤلاء.

ويُلاحظ أنَّ «ديوان الخفنجي والقاره» من أغنى الدواوين بالعامية الصنعانية، ومفرداتها وجملها وأمثالها.

ويشير المحقق المتقن بمهارة درس النص وتدقيقه بعالمنا الجليل محمد بن محمد المنصور، ويتناول مدى ارتباط اللهجة الصنعانية باللهجات الفصيحة، والإمالة، والإشمام  في القراءات السبع؛ مختتمًا تحقيقه الضافي بالإشارة إلى أنَّ ديوان القارة يقع في 120 صفحة، أمَّا ديوان الخفنجي فيقع في 173 صفحة من القطع الكبير.

الشكر الجزيل والامتنان للعلماء الأفاضل: محمد بن محمد المنصور، وللعلامة السيد علي إسماعيل المؤيد، وأستاذنا الجليل محمد بن عبد الله الجرافي.

والشكر والامتنان والعرفان للدكتور المحقق الذي بذل بعلمٍ ومهارةٍ أقصى جهده في إخراج الكنزين العظيمين ديواني: «الخفنجي»، و«القاره». إنه الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد أبو طالب.

دراسة وتحقيق: أ.د. إبراهيم محمد أبو طالب. تصدير: عبد الله محمد الحبشي. تقديم: د. عباس علي السوسوة 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً