إبراهيم بن ناصيف اليازجي، لُغويٌّ أديبٌ ناقدٌ شاعرٌ، له عدة مؤلفات. ولد في بيروت عام 1847م، وتوفي في القاهرة عام 1906م. ولعل أشهر قصيدة له، انتشرت في الوطن العربي، وكانت ضمن القصائد المقررة على طلاب المرحلة الثانوية في بعض المدارس العربية، قصيدته التي مطلعها:
تنبَّهوا واستفيقوا أيُّها العربُ
فقد طمى السيلُ حتَّى غاصتِ الرُّكبُ
ورغم صرخته تلك، التي أطلقها قبل ما يقارب قرناً ونصفاً من الزمان، ما زال العرب نائمين، ولم توقظهم حتى أصوات الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يبادون على مدار الساعة في فلسطين المحتلة، لا سيما في غزة والضفة الغربية، بآلات القتل الصهيونية الأمريكية، وبالحصار والتجويع وتدمير كل مقومات الحياة، من ماء وغذاء ودواء ومأوى، وبالصمت أو التواطؤ الرسمي العربي. وكم من صرخات تبعت صرخة اليازجي، ومازال الحال الذي شكا منه في زمانه وأطلق صرخته استنكاراً له، مازال كما كان، بل ويزداد سوءاً. لأن العرب لا يستيقظون ولا يتنبهون إلى الأخطار الداهمة، التي تهدد وجودهم جميعاً دون استثناء.
وكان ممن أرسلوا صرخاتهم من بعده، ابن لواء الإسكندرون، الشاعر العربي الكبير، سليمان العيسى. وكانت صرخاته المدوية مشبعة بالتفاؤل والعناد، اللذين عُرفَ بهما سليمان، كمناضل قومي صلب، وعبر عنهما في بيت من الشعر، اختزل فيه مضامين كل شعره تقريبا، وظلت الجماهير العربية تردده في مسيراتها ومظاهراتها ردحاً من الزمن، وهو:
أمةُ العربِ لن تموتَ وإنِّي
أتحدَّاكَ باسمِها يا فناءُ
ولكن رغم صرخة إبراهيم المحذرة وصرخة سليمان المتفائلة العنودة، وصرخات أمثالهما، مازالت أمتنا العربية نائمة. وقد توفي إبراهيم ولم يستجب العرب لصرخته، وتوفي سليمان من بعده بما يزيد على قرن من الزمان، وهو يشهد أحلامه تتهاوى. ولكن سليمان قبل أن يودع الحياة بكل خيباتها، انصرف بتفاؤله وعناده عن الكبار إلى الصغار، إلى أطفال العرب، حتى لُقِّب بشاعر الطفولة، وكرس لهم في كهولته شعره وكتاباته، متفائلاً بهم، مؤمناً بأنهم هم صناع الحياة العربية الجديدة، بعد أن يئس من أبناء جيله. فهل سيكون أطفال العرب أفضل من آبائهم؟ ربما.
وهذه أبياتٌ من قصيدة إبراهيم اليازجي الشهيرة:
تَنبَّهوا وَاستَفيقوا أَيُّها العربُ
فَقَد طَمى السَّيلُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ
فيمَ التَعلّلِ بالآمالِ تَخدَعُكم
وَأَنتمُ بَينَ راحاتِ الفَنا سَلَبُ؟
كَم تُظلمونَ وَلَستُم تَشتكونَ وَكَم
تُستَغضَبونَ فَلا يَبدو لَكُم غَضَبُ
ألِفتُم الهونَ حَتَّى صارَ عِندَكُمُ
طبعاً وَبَعضُ طِباعِ المَرءِ مُكتَسَبُ
وَفارَقَتْكُم لِطول الذُلِّ نَخوتُكم
فَلَيسَ يُؤلِمُكم خَسفٌ وَلا عَطَبُ
لِلّهِ صَبرُكُمُ لَو أَن صَبرَكُمُ
في مُلتَقى الخيل حينَ الخَيل تَضطَرِبُ
كَم بَينَ صبرٍ غَدا لِلذُلِّ مُجتَلِباً
وَبَينَ صَبرٍ غَدا لِلعزِّ يَحتَلبُ
فَشَمِّروا وَاِنهَضوا لِلأَمرِ وَاِبتَدِروا
مِن دَهرِكم فُرصَةً ضَنَّت بِها الحِقَبُ
لا تَبتَغوا بالمُنى فَوزاً لِأَنفُسِكُم
لا يصدقُ الفَوزُ ما لَم يصدُقِ الطَّلَبُ
خلُّوا التَّعَصُبَ عَنكُم وَاستَووا عُصَباً
على الوِئام وَدَفعِ الظُّلمِ تَعتَصِبُ
هَذا الَّذي قَد رَمى بِالضَّعفِ قوَّتَكم
وَغادرَ الشَّملَ مِنكُم وَهُوَ مُنشَعبُ
وَسَلَّطَ الجورَ في أَقطارِكُم فَغَدَت
وَأرضُها دونَ أَقطارِ المَلا خِرَبُ
وَحكَّمَ العِلجَ فيكُم مَعْ مَهانَتِهِ
يَقتادكُم لِهَواهُ حَيثُ يَنقَلبُ
مِن كُلِّ وَغدٍ زَنيمٍ ما لَهُ نَسَبٌ
يُدرى وَلَيسَ لَهُ دِينٌ وَلا أَدبُ
سِلاحُهُم في وُجوهِ الخَصمِ مَكرُهمُ
وَخَيرُ جُندِهمُ التَّدليسُ وَالكَذبُ
لا يَستَقيمُ لَهُم عَهدٌ إِذا عَقَدوا
وَلا يَصحُّ لَهُم وَعدٌ إِذا ضَرَبُوا
أَلستمُ من سَطوا في الأَرضِ وَافتَتَحوا
شَرقاً وَغَرباً وَعَزّوا أَينَما ذَهَبُوا؟
ومَن أَذَلُّوا المُلوكَ الصِّيدَ فَارتَعَدَت
وَزلزلَ الأَرضَ مِما تَحتها الرّهَبُ؟
وَمن بَنَوا لِصروحِ العزِّ أَعمِدَةً
تَهوي الصَّواعقُ عَنها وَهيَ تَنقَلِبُ؟
فَما لَكُم وَيحَكُم أَصبَحتُمُ هملاً
وَوجهُ عزِّكمُ بِالهونِ مُنتَقِبُ؟
لا دَولةً لَكُمُ يَشتَدُّ أزرُكُمُ
بِها وَلا ناصِراً لِلخَطبِ يُنتَدبُ
وَلَيسَ مِن حُرمةٍ أَو رَحمةٍ لَكُمُ
تَحنو عليكُم إِذا عضَّتكمُ النُّوَبُ
أَلَيسَ فيكُم دَمٌ يَهتاجُهُ أنَفٌ
يَوماً فَيَدفَعُ هَذا العارَ إِذ يَثِبُ؟
فَأَسمِعوني صَليلَ البيضِ بارِقَةً
في النَّقعِ إِني إِلى رَنَّاتِها طَرِبُ
وَأَسمَعوني صَدى البارودِ مُنطَلِقاً
يَدْوي بِهِ كُلُّ قاعٍ حينَ يَصطَخِبُ
لَم يَبقَ عِندَكُمُ شَيءٌ يُضَنُّ بِهِ
غَيرَ النُّفوسِ عَلَيها الذُّلُّ يَنسَحِبُ
فَبادِروا المَوتَ وَاِستَغنوا بَراحَتِهِ
عَن عَيشِ مَن عاشَ مَيتاً مُلؤُهُ تَعبُ