بينما كنت مستلقيًا على السرير في غرفة الإنعاش، بين أيدٍ خبيرة تحاول إنقاذ ما تبقى من شراييني، ما زال أثر التخدير يغزل أحلامًا متشابكة في ذهني. كنت أفكر في قلبي الذي نجا بأعجوبة من انسداد شريانه، وكيف يشبه حال اليمن، البلد الذي تكاد شرايينه السياسية والاقتصادية تنفجر تحت ضغط الأزمات.
قلت: "يا قلبي، يبدو أنك اضطررت للجوء إلى السلام القسري!" لم أستطع كتم ضحكتي، رغم الموقف الحرج. "ها نحن هنا، نحاول إصلاحك بشق الأنفس، بينما هناك من يمزق قلوب الآخرين بألغامهم وقذائفهم!"
أضفت: "أتعجب، يا قلب، كيف غدت المصائب سوقًا رائجة للابتزاز السياسي. كل طرف يحاول تجيير آلام الناس لصالحه، غير مبالٍ بأن تلك الأوجاع لا تفرق بين فصيل وآخر".
وتابعت بنبرة ساخرة: "أتعلم، يا صديقي؟ في اليمن، الأزمة ليست مجرد عارض، بل أصبحت موردًا يُستثمر لتصفية الحسابات بين القوى السياسية. كأنهم يتسابقون لتدمير ما تبقى، دون اعتبار للمآلات المدمرة التي ستلاحق الجميع. وكأن وطنًا ممزقًا هو الجائزة التي يسعون للفوز بها!"
ثم التفتُّ نحو شاشة الأشعة التي كانت تعرض خرائط معقدة لشراييني المتعرجة، وقلت: "أتعلم، يا قلبي؟ لقد عانى هذا الوطن من انسدادات أشد خطورة من انسداداتك. قلوب اليمنيين مثلك تمامًا، تضخ الحياة رغم التعب، لكن متى سنخضع جميعًا لجراحة سلام تُعيد فتح شرايين الأمل؟"
تنهّدتُ بعمق وكأنني أوجّه حديثي إلى كل القادة والسياسيين الذين جعلوا من دماء الأبرياء وقودًا لحروبهم الصغيرة. "كم هو مؤلم أن تكون الأزمة مجرد فرصة لتصفية الحسابات! كأن الأرواح المتساقطة مجرد أوراق في موازين المصالح الضيقة. ألا يدرك هؤلاء أن ثمن العناد هو مزيد من الجثث؟ وماذا بعد؟ ألن يجلسوا على الطاولة ذاتها التي يهربون منها اليوم؟ لماذا الانتظار حتى تُغرقنا الدماء؟"
تساءلت بصوت عالٍ: "لماذا ننتظر دائمًا حتى تفيض الأرض بالدماء وتُثقل الكرامة الوطنية بالجراح؟ نحن نعلم جيدًا أن النهاية ستكون اتفاقًا، سواء عبر طاولة المفاوضات أو بعد حرب طويلة ومرهقة. فلماذا لا نتخذ الطريق الأقصر وننقذ ما تبقى من أرواح وأحلام؟ أليس من الحكمة أن نختصر الألم ونوفر على هذا الشعب سنوات من العذاب؟"
ثم تحول خطابي إلى القادة والسياسيين مجددًا، وقلت بحدة: "إلى أولئك الذين يتغذون على ثراءٍ جلبته الحروب، والذين يتوغلون في الفساد على حساب دموع المرضى وأنين الجوعى، نقول: نحن نراكم، ونسجل أفعالكم. لن ننسى، وسنخبر بها الأجيال. لن تُمحى هذه الجرائم، وستظل جزءًا من تاريخكم الأسود، بل وصمة عار على جبينكم، تُعري طفولية السياسة التي تديرون بها المرحلة".
أضفت بنبرة أقوى: "سيلعنكم التاريخ، لا لأنكم أخطأتم، بل لأنكم واصلتم الخطأ برغم إدراككم لعواقبه. ستتذكر الأجيال القادمة أنكم وضعتم مصالحكم فوق أرواح الناس، وأنكم جعلتم من الوطن ساحة لنهب الثروات وتشريد البسطاء. ستلعنكم الأجيال كما يلعن الجائعون ظلمكم اليوم".
رفعت بصري نحو السقف، وكأنني أخاطب الجميع: "يا ساسة اليمن، افتحوا أعينكم! المستقبل لا ينتظر أحدًا. إما أن نختار طريق الحرية والكرامة والسيادة، أو نبقى أسرى لدوامة لا نهاية لها. دعونا نعطي فرصة جديدة ليمن جديد، يمن يستحقه أبناؤنا وأحفادنا".
ثم تابعت : "يا قلب، أتعلم؟ نحن كأمة أصبحنا مثل هذا الشريان. أزمة تلو أخرى، وشراييننا السياسية والاجتماعية تضيق أكثر فأكثر. لماذا لا نبحث عن قسطرة جماعية؟ لماذا لا نقرر يومًا أن نختصر الطريق نحو السلام بدلاً من المضي في متاهات الصراع؟ ألم نتعب من هذا الدوران في حلقات مفرغة؟"
أخذت نفسًا عميقًا وواصلت: "يا ترى، كم من الأرواح يجب أن تُزهق قبل أن ندرك أن لا منتصر في هذه الحرب؟ لماذا نحتاج إلى سنوات من الدم والدموع لنصل إلى اتفاق نعلم جميعًا أنه حتمي؟ هل نحن فعلاً بحاجة إلى زيادة عدد الضحايا لنقتنع بأن الحوار هو الحل؟ أليس من الأفضل أن نتحرر من عقدة الاستحواذ تلك، وأن نؤمن بالشراكة؟ لماذا تبدو أحلامنا للسلام مثل سراب في صحراء العنف؟
من المؤلم أن نحبس أنفسنا في دوامة من الاستحواذ على السلطة والثروة، وكأنها غنائم، بينما نحن بحاجة ماسة إلى التضحية من أجل المستقبل".
استدرت نحو قلبي مرة أخرى: "يا قلب، هل تظن أن هذا الجيل الذي وُلِد في زمن الحرب سيكبر دون أن يحمل أعباء الماضي؟ كيف يمكننا أن نبني يمنًا جديدًا إذا استمررنا في الدوران في حلقة الصراع؟
يا قلبي، تأمل في دول أخرى، كيف نهضت بعد الاستقلال. انظر إلى وضعهم الآن، كيف استطاعوا أن يتجاوزوا تركة الاستبداد والفساد بشجاعة. لماذا لا نتعلم من تجاربهم؟"
وبينما كنت أتأمل شاشة القسطرة، خطر ببالي سؤالٌ مرير: لماذا يزداد جرح اليمن عمقًا كل يوم، بينما دولٌ نالت استقلالها بعدنا قطعت أشواطًا هائلة نحو التقدم؟ نحن الذين احتفلنا بثورة 26 سبتمبر في الشمال و14 أكتوبر في الجنوب، كان حلمنا حينها كبيرًا؛ أن نصنع من هذا البلد وطنًا حرًا كريمًا يتقدم بخطى ثابتة. ولكن، ماذا حدث؟
لا زلنا عالقين في دوامة الصراعات وتصفية الحسابات. كل طرفٍ يعتقد أنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، وأنه أحق بالسلطة والثروة من غيره. تتساقط المدن تحت وطأة الحروب، وتُزهق أرواح الأبرياء، بينما تتكدس ثروات السياسيين في بنوكٍ بعيدة عن هذا التراب الذي يئن.
يا قلبي، هل تعلم أن كل تلك الدول التي حصلت على استقلالها بعدنا، تنافس اليوم في الصناعة والعلوم؟ وصلت بجدارة إلى مستوى حضاري مذهل، بينما نحن ما زلنا نبحث عن الخبز والماء والدواء؟ لماذا نظل عالقين في الماضي، بينما المستقبل يُنادي؟ متى نُدرك أن الحروب ليست إلا تأجيلًا مؤلمًا للحلول الحتمية؟
تأملت في تجربة دولٍ كفيتنام، التي خرجت من حربٍ ضروس مع واحدة من أعظم القوى العالمية، لتصبح اليوم قوة اقتصادية مزدهرة. ماليزيا، التي كانت تعاني من الانقسام والفقر، نهضت بفضل رؤية سياسية واعية واستثمارٍ في التعليم والصناعة. سنغافورة، التي لا تملك موارد طبيعية تذكر، استطاعت بفضل قيادتها الرشيدة تحويل كل تحدٍ إلى فرصة، وأصبحت اليوم نموذجًا يُحتذى به.. فضلاً عن دول الخليج المجاورة التي شهدت نهضة هائلة في مختلف المجالات.
تجارب أخرى لدول نجحت في تجاوز آثار الصراع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تجربة جنوب أفريقيا التي عاشت صراعًا مسلحًا في ظل نظام عنصري (الأبارتايد) حتى عام 1990، ورواندا التي شهدت إبادة جماعية عام 1994، حيث قُتل حوالي 800,000 شخص من التوتسي والهوتو المعتدلين، وتشيلي التي خضعت لحكم الديكتاتور أوغستو بينوشيه (1973–1990) والذي شهد انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وكذلك المغرب الذي عانى انتهاكات حقوق الإنسان في "سنوات الرصاص" (1960–1999)، وكولومبيا التي شهدت صراعًا مسلحًا دام أكثر من 50 عامًا بين الحكومة والمتمردين (فارك)، وغيرها من التجارب.
أعدتُ التأمل في الشاشة. "أتعلم، يا قلبي؟ القسطرة هذه تذكرني بمفاوضات السلام. إدخال قسطرة صغيرة في شريان مزدحم يشبه محاولة إدخال السلام في قلب حرب عنيدة.
الفارق الوحيد هو أن القسطرة تتم بسرعة لأن الأطباء يدركون خطورة التأخير، بينما ساسة بلادي يتفنّنون في إطالة النزيف.
لقد شهدنا الكثير من المعاناة في هذه الأرض، وما زلنا نُصر على حمل ثقل السلطة والثروة، كما لو أننا في مسابقة فاشلة. لماذا لا ننظر إلى المستقبل برؤية متطلعة، كأن هناك أفقًا آخر غير هذا الحلم الضبابي؟
هل فكرنا للحظة أننا نعيد إنتاج نفس الأخطاء، وأن تأخير الحلول لا يزيد إلا من حجم الكارثة؟ ألم ندرك بعدُ أن الحوار والمصالحة هما الطريق الوحيد لبناء وطنٍ يليق بتضحيات أجدادنا وأحلام أطفالنا؟"
أغمضت عيني للحظة. "أتعلم، يا قلبي؟ ربما ما نحتاجه هو شجاعة الاعتراف بأننا جميعًا بحاجة إلى بعضنا البعض. أن الشراكة ليست خيارًا، بل ضرورة تُعيد نبض الحياة إلى وطننا المنهك. لماذا لا نختصر الوقت والكلمات ونُعيد صياغة المستقبل الآن بدلاً من انتظار مزيد من الجثث؟"
التفتُّ مجددًا إلى الشاشة وقلت مبتسمًا: "لا تخف، يا قلبي. لقد أصلحوك لتواصل النبض. أما هذا الوطن، فهو بحاجة إلى قسطرة أكبر، قسطرة تُعيد فتح قنوات التواصل بين أبنائه، وتُذيب الجلطات المتراكمة من الكراهية والأنانية".
واختتمت حواري مع قلبي: "لكن اعلم، يا قلب، أن اليمن ليس ورقة طُويت في كتب النسيان. مهما كانت الجراح عميقة، سيأتي يوم ينهض فيه هذا البلد، وسيسقط كل من حاول سحقه تحت وطأة الحقيقة والتاريخ. حينها، ستُفتح شرايين الحياة من جديد، وسيُعاد بناء وطن لم ولن ينسى من خانوه".
الحلول موجودة دائمًا، لكنها تحتاج إلى إرادة وقرار. يجب أن نكون الصوت الذي يدعو إلى الشراكة بدلاً من الاستحواذ، وأن نختصر الوقت والجهد بالكلمة والتضحية. فإذا استمر الصراع، فلا مفر من آثار الفشل المتكررة. لنترك فرصة جديدة تتشكل، من خلال الحوار، من خلال الإيمان بأننا مثل خيوط الندى، نحتاج بعضنا كي نتماسك.
السلام ليس مجرد شعار، بل هو سلوك، هو عزة نفس. إذا أردنا مستقبلًا جديدًا، فنحن بحاجة إلى تحرر من عقدة الاستحواذ والتفكير في المصلحة العامة. لأننا للأسف نعيش في خوف، ننتظر تراكم الضحايا كأنها عملة الندم الوحيدة. التحرك بوعي لتغيير الوضع اليوم يتطلب شجاعة أكبر من الشجاعة في الحرب.
علينا أن نؤمن بأن اليمن يستحق السلام. ومع كل جرح ينزف، تتجلى الفرص لبناء يمن الحرية والكرامة. لنصنع من كل حديث عن السلام واقعًا، فنحن أحق بجمال ما يمكن أن نزرعه من أفكار ومبادئ.
وبينما كنت أستمع لضجيج الأجهزة الطبية من حولي، شعرت بأن اللجوء نحو السلام قد يكون بريق الأمل لبناء مستقبل جديد. لنحتفظ بالأمل، ونفكر فيما يمكن أن نصنعه معًا. فاليمن يستحق الأفضل، وهو ما يجب أن يكون.