تناول القاضي عبدالعزيز البغدادي في مقاله "الوسطية" الذي نشرته صحيفة "الشورى" الإلكترونية، بتاريخ ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٤م، موضوع "الوسطية" في الفكر الإسلامي، مشيرًا إلى الفجوة بين الدعوى والممارسة. رغم أن الأمة الإسلامية تدعي أنها "أمة وسط"، إلا أن واقعها لا يعكس هذه الحقيقة. هذا يتجلى في غياب القراءة الصحيحة للواقع والتاريخ، ما أدى إلى ضعف الفهم لطبيعة الوسطية التي ينبغي أن تؤدي إلى السلام وتجنب الصراعات.
وأسار إلى أن هناك أسبابًا متعددة تعرقل تحقق دعوى الوسطية. الهزائم المتكررة التي تعرضت لها الأمة تُظهر تأخرها في فهم الوسطية الحقيقية، مما ينجم عنه حالة من المكابرة. كذلك، يجب أن يكون الاعتدال مرتبطًا بالعدالة، إذ إن ما يُمارس أحيانًا باسم الاعتدال قد يكون هروبًا من المسؤوليات، ملفتًا النظر إلى أن الفخر بالأمية والتاريخ الحربي يعوق التقدم نحو مجتمع متحضر، حيث أصبح العنف هو السائد، مما يعكس افتقارنا للحوار والتفاعل البناء، والتوصل إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية تنافسية برامجيًا بين الأحزاب السياسية المدنية.
وفي هذا السياق، يؤكد كاتب هذه السطور أن ظاهرة التكفير التي تمارس من قبل طرفي الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي باسم الدين، هي التي أشعلت الحروب الدموية، وما جاء في كتب المتطرفين من تفسيق وتكفير وتنجيس الفرق لبعضها البعض، هو أشد خطرًا من الحروب الدموية التي تنتهي بانتهاء الحرب ، بينما الحروب الكلامية مستمرة متوارثة عبر الأجيال، فهي لذلك أشد خطرًا على الأمة الإسلامية.
ومن يطلع على فكر ابن تيمية يجد أنه كفر الأمة الإسلامية في ٤٨٢ مسألة، منها من تلفظ بالنية في الصلاة فيستتاب أو يقتل، هذا النوع من الفكر المتطرف يعكس انحرافًا عن مفهوم الوسطية، إذ يُكفَّر المسلمون لأسباب بسيطة أو آراء مختلفة. في المقابل، يؤكد علماء الأصول على ضرورة حمل الناس على السلامة، بل قالوا: "إذا قال المسلم قولًا يحمل مائة وجه على الكفر ووجهًا واحدًا على الإيمان، فلا يجوز حمله إلا على الإيمان".
ومن المعلوم أن مفهوم الوسطية يعتبر قيمة أساسية يجب تضمينها في مناهج التعليم الديني، بعيدًا عن التعصب المذهبي. يسمح هذا بتقديم صورة شاملة للإسلام تعزز الفهم الصحيح للقيم والمبادئ، مما يسهم في تشكيل جيل قادر على التفكير النقدي واستيعاب التنوع. من خلال التأكيد على مبادئ التعايش السلمي والاحترام المتبادل، يمكن للطلاب أن يتعلموا كيفية الحوار البناء.
كما أن التعليم الديني القائم على الوسطية يعزز من قدرة الأفراد على مواجهة التحديات المعاصرة، إذ يساعدهم في فهم النصوص الدينية بشكل متوازن. يصبح لدى الطلاب القدرة على اتخاذ مواقف معتدلة تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية، مما يسهم في بناء مجتمع أكثر تسامحًا واستقرارًا.
علاوة على ذلك، إن إدماج مفهوم الوسطية في مناهج التعليم يسهم في بناء هوية إسلامية متوازنة تدعم السلام والتفاهم بين جميع الأفراد، مما يساعد في مواجهة التعصب والانقسام. إن الوسطية تعزز من قيم العدالة والمساواة، مما يسهم في تقليص الفجوات بين مختلف المذاهب والاتجاهات.
في النهاية، إن تحقيق الوسطية يتطلب شجاعة فكرية ووعيًا مجتمعيًا، وهذا لا يتحقق إلا من خلال مجهود جماعي يهدف إلى بناء ثقافة السلام والاعتدال.