فشلت عدة محاولات لاغتيال جار الله داخل وخارج اليمن، ونجح السعواني الذي تواطأت معه في ارتكاب جريمته سلطة وحزب لم يبخلا بذرف دموع التماسيح عليه.
قوى الردة عن الجمهورية والثورتين والوحدة صعُب عليها احتمال بقاء جار الله على قيد الحياة. الرئيس الراحل ع. ع. صالح قال لجار الله إن مصيره القتل من قبل من لهم ثارات عنده، وكان رد جار الله ليس لأحد ثأر عندي، ولن يقتلني غيرك.
لا يمكن محو ما حدث في ٢٨ ديسمبر ٢٠٠٢ من الذاكرة الوطنية، بعد أن تم التمهيد له بالاستحواذ الكامل على السلطة والثروة عقب حرب ١٩٩٤، لتشكيل اليمن الموحد وفق مصالح ورؤى طرفي الحرب، ولبدء عد تنازلي صبور للتوريث بدأ التفكير الفعلي فيه عام ١٩٩٠، عبر عنه صالح في أغسطس ١٩٩٠: "سنحكم اليمن لخمسين عامًا".
بالتوازي تم توظيف الدين من منابر الجوامع المخطوفة لتبرير الحرب وشرعنتها، ولإعادة صناعة الرأي العام. وفي الوقت نفسه لعبت جامعة الإيمان كوكر دورًا مهمًا في بث ثقافة الكراهية والتكفير، وأنتجت القاتل السعواني.
مقولة اتق شر نصف المتعلم، تنطبق على السعواني الذي لم يكمل تعليمه الجامعي، وتحول إلى أداة بيد الأمن السياسي ومُفتٍ للقتل. السعواني بحسب اعترافاته الخطية منح نفسه سلطة تطبيق الآية القرآنية الكريمة: "فقاتل في سبيل الله لا تُكلِّفَنّ إلاّ نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشدُّ بأسًا وأشدُّ تنكيلًا".
لم تتغير قناعة القاتل بصواب جريمته، وبحقه في أن يقتل "كمجاهد وحيد يقاوم العلمانية والتنصير" ( جريدة "الحياة"، ٨ مارس ٢٠٠٤).
ولإضفاء طابع ديني لتغطية جريمته، حلل القتل بتفسير مضلل للجهاد سماه "الجهاد الفردي أو الحل الممكن" الذي لو قام به كل فرد لسالت الدماء وعمت الفوضى وانهار حكم القانون وتلاشت سلطة الدولة وأضحى الإرهاب مشروعًا وتحول المجتمع إلى غابة.
في الحل الممكن الذي برر به القاتل دمويته، ذكر أربعة "منكرات"! اعتبرها كفرًا بواحًا، وهي:
١. العلمانية.
٢. الذين يطعنون ويسبون الدين من الزنادقة والباطنية والتنصيريين.
٣. الولاء العام لليهود والنصارى.
٤. القوانين الوضعية كالقانون التجاري الذي يعاقب على عدم دفع "الربا".
جار الله كان بريئًا من "المنكرات" ٢ و٣ و٤، أما العلمانية التي تم الترويج لها لمحاربة الآخر، فليست كفرًا على الإطلاق، وستظل محل خلاف.
إن ماحدث في السبت الأسود كان إحدى نتائج فتاوى التكفير التي بدأت منذ التأسيس السري لحزب الإصلاح، ثم السيطرة بالعنف على المساجد، ومرورًا بإنشاء المعاهد العلمية التي كانت بؤرًا لتنشئة تعبوية تكفيرية، ولم يخضع تمويلها الداخلي والخارجي للرقابة.
بعد حرب ١٩٩٤ كوفئ الحزب بإنشاء جامعة "الإيمان" التي أطلق عليها اسم تسويقي ثانٍ هو "الجامعة الخيرية الإسلامية"، ولعلها الجامعة الخيرية السلفية الوحيدة في أحد أفقر البلدان في العالم، لمنع أشعة شمس الحريات والديمقراطية والعلم والتقدم، وإبقاء اليمنيين مكبلين بأغلال الماضي.
علماء اليمن يكفرون السعواني
بعد اغتيال جار الله والأطباء الأمريكيين في مد ينة جبلة على يد رفيق السعواني الإرهابي عابد كامل، أصدر علماء اليمن فتوى تدحض "فتوى" السعواني بتحليل القتل باسم الجهاد، نصت على أن الجهاد "لا يجوز إلا ضد الكافر المحارب، ولا يجوز في مواجهة معاهد أو مستأمن ولا ذمي ولو كان كافرًا"، واعتبر العلماء السعواني "في جهنم خالدًا وبئس المصير لقتله مؤمنًا معصومًا، ولمشاركته في قتل الأطباء (جريدة "الحياة" اللندنية، ٤ يناير ٢٠٠٢).
لم يكن القاتل أصم وهو يسمع جار الله يستهل خطابه الذي ألقاه باسم الحزب الاشتراكي، في مؤتمر الشؤم الثالث "لحزب الإصلاح" بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا شك أنه علم أنه أدى فريضة الحج التي ربما لم يؤدها هو، وأن الشهيد كان متفقهًا في الدين، وأنه لو لجأ إليه للتزود بالقليل من معارفه لما ارتكب جريمته.
التواطؤ الرسمي
كان ينبغي عقب ارتكاب هاتين الجريمتين البشعتين، أن تبحث السلطة في علاقة القاتل بالشيخ الزنداني والمنهج التعليمي لوزارة التربية والتعليم و"جامعة الإيمان" وملفات طلبتها الأمنية ومنهم السعواني وعابد قاتل الأطباء.
نشاط السعواني لم يكن خافيًا على الأمن، وأنه كان رئيس خلية "جامعة الإيمان" في مسيك بصنعاء، ولم يكن ذلك سرًا للزنداني، وأنه كان أيضًا خطيب جامع الحي.
اسم الشيخ الزنداني ورد في التحقيقات مع آخرين، ومن بينهم شابة تدعى أمل الضاوي أسهمت في تمويل القاتل قبل ارتكابه جريمته مباشرة، ولم يتخذ ضدها ما يجب عمله في حالات خطيرة كهذه، وأقله استجوابها هي والزنداني.
لقد طالب د. محمد المخلافي، أحد محامي أولياء دم الشهيد جار الله، بالتحقيق مع الزنداني الذي كان على علاقة بالقاتل السعواني، والتقاه في عدن قبل تنفيذ الجريمة، وكفله من قبل لدى جهاز الأمن السياسي ( الاستخبارات) لإطلاق سراحه بعد احتجازه بتهمة التهجم على النظام السياسي وتكفيره (جريدة "الحياة"، ٨ مارس ٢٠٠٤).
الزنداني كان فوق القانون الذي تلاشى دوره في الدولة الفاشلة التي تواطأت معه في إطار التخادم المتبادل بين الزنداني ورئيس الدولة شخصيًا.
لم يقتصر طلب المحامي على التحقيق مع الزنداني وحده، بل أضاف أسماء أخرى تنتمي إلى حزب الإصلاح، وتعمل في جامعة الإيمان التي كان يمتلكها ويديرها الزنداني.
ورغم الحكم بإعدام القاتل الذي ترافع عن نفسه، وانتقد المحكمة لأنها استمعت إلى المخلافي محامي "الحزب الكافر في مواجهة مجاهد وحيد يقاوم العلمانية والتنصير" (نفس المرجع).
خاتمة
تكاثر أمثال السعواني كالفطر، ونظموا في مليشيات، وهم أطراف في الحرب والسلام في اليمن المنكوب اليوم، ولهم رعاة وممولون عابرون للحدود اليمنية بكل حرية، لوأد طموحات المارد اليمني في بناء يمن مستقل وسيد في أرضه وجزره، وليس على شاكلة أي نظام غير جمهوري.
إعدام السعواني لم يغلق ملف جار الله، لأن العدالة أجهضت بذلك الحكم لتعدد أطراف عملية الاغتيال ومن شارك في التحضير لها ومولها. هؤلاء لم تقترب منهم العدالة، ومتورطون في اغتيال من أحب وطنه وحزبه أكثر من نفسه.