بينما كنت مستلقيًا على طاولة القسطرة، في تلك اللحظة التي يحدق فيها الجميع بشاشة تظهر أشياءً لا أفهمها، وجدتني أخاطب قلبي مجددًا. هذا العضو الصغير، الذي يعمل بلا كلل، أصبح فجأة مركز اهتمام فريق طبي كامل. قلت له بنبرة ساخرة: "أرأيت يا صديقي؟ لم تعد مجرد قطعة لحم تضخ الدماء، لقد أصبحت نجمًا! الكل هنا من أجلك. أطباء، ممرضون، حتى تلك الآلة الصاخبة التي تنبض بالخطوط على الشاشة. هل تشعر بشيء من الغرور؟ لا تقلق، سأذكرك أن غرورك هذا كله يعتمد على شريان واحد صغير".
صمتُّ قليلاً، ثم أضفت: "أتدري؟ لطالما كنت أتعجب من المتكبرين، أولئك الذين يظنون أن العالم يدور حولهم، بينما حياتهم بأكملها قد تتوقف بسبب شعيرة دموية أصغر من خيط الشعر. يا للعجب! كم هم هشّون ونحن لا ندري!"
في تلك اللحظة، تملكني شعور غامر بالتأمل في عظمة الخلق. رفعت نظري وقلت: "يا سبحان الله! صممتَ هذا الجسد بنظام هندسي مذهل؛ شرايين وشعيرات تعمل بتناغم يشبه سيمفونية متقنة. لكن إذا تعطل عازف واحد، انقلبت الموسيقى إلى نشاز. لماذا لا نتذكر نعمة الصحة إلا عندما تهتز؟ وكيف لا ندرك أننا كائنات هشة تسقط أمام أبسط خلل؟"
ثم استدرت بفكري إلى أولئك المتجبرين في الأرض، وقلت لقلبي: "تصور هؤلاء الطغاة الذين يقررون مصائر البشر. الذين يُقررون الموت والحياة بجرّة قلم، قوتهم كلها قد تنهار بسبب انسداد بسيط في شريان. هل تخيلوا ذلك وهم يصدرون قراراتهم الجائرة؟ كم هو ساخر أن تتحكم قطعة دهون صغيرة بمصيرهم، كما يتحكمون هم بمصائر الآخرين! يا لسخرية القدر!"
ابتسمت للحظة وأضافتني هذه الفكرة جرأة: "يا ترى، إذا وُضِع أحدهم على طاولة القسطرة، هل سيطلب الرحمة؟ هل سيدرك كم هو ضعيف؟ أم سيظل متشبثًا بوهم القوة، حتى وهو في أضعف حالاته؟"
عدت بذاكرتي إلى مشاهد الظلم، وقلت لنفسي: "كم من الظالمين عاشوا على وهم السيطرة، بينما هم أنفسهم أسرى لعجزهم أمام أبسط الأمراض؟ كيف يبررون لأنفسهم أفعالهم؟ وهل يتصورون أن الألم الذي يزرعونه اليوم قد يتحول إلى لعنة تلاحقهم غدًا؟ تذكرت أولئك الذين يعتقلون الأبرياء دون تهمة، ويغلقون الأبواب خلفهم على قلوب تنبض بالخوف، وعيون تتوسل الرحمة".
نعم. تذكرت بألمٍ مشهد الظالم الذي يمد يده ليعتدي على إنسان ضعيف. قلت: "تصور يا صديقي، كيف ينام الظالم ليلًا بعد أن يصفع بريئًا لا يملك إلا نظرات الخوف البريئة؟ أية قوة وهمية تلك التي تقوده ليعذب الآخرين بأدوات حادة، كأنما يحاول أن ينتزع صرخاتهم ليصنع منها نشوة مجنونة؟ وهل يخطر بباله أن هذا الجسد الهزيل الذي يعذبه اليوم قد يتحول غدًا إلى شاهد يُدين جبروته؟
كيف يبررون لأنفسهم أن التعذيب، والآلات الحادة، والجدران الباردة يمكن أن تسكت إنسانًا؟ أي قلوب تلك التي تنتحر من الداخل، لكنها تستمر في الضخ لتغذي أجسادًا فارغة من الإنسانية؟"
توقفت للحظة، كأنني أستمع لصدى الألم، ثم أضفت: "يا قلب، إن مشهد الظالم وهو يعتدي على الضعيف مشهد لا تنساه البشرية. كيف لا تهتز أيديه وهو يرى دموع الضحايا تسقط، دموعًا تسأل الله الثأر؟ أما فكر يومًا أن قبضته التي تصفع البريء قد تصبح غدًا قبضةً ترتجف طلبًا للعون؟ ألا يتعلم من التاريخ أن الظلم قصير العمر، وأن المعتقلين الذين يعذبهم اليوم هم من سيشهدون على سقوطه غدًا؟"
ثم جاءني الحديث عن أولئك الذين يرفعون شعارات المبدأ والإنسانية، لكنهم يبيعونها عند أول اختبار تحت ضغط السياسة أو الإيديولوجيا، فينحرفون عن قيمهم. قلت: "يا قلب، أتعرف ما هو أشد ألمًا من الظلم؟ إنه خداع المبررين. هؤلاء الذين يغلفون أفعالهم بشعارات براقة، بينما أفعالهم تُناقض قيمهم. كيف يبرر العلماني قمع الحريات باسم النظام؟ وكيف يبرر الإسلامي الظلم باسم الدين؟ أليست الكرامة الإنسانية هي القيمة التي لا يجوز المساس بها، مهما كانت الظروف؟"
العلماني الذي يتحدث عن حقوق الإنسان، لكنه يغض الطرف عن الانتهاكات إذا جاءت من نفس المعسكر السياسي. والإسلامي الذي يبرر القهر والظلم باسم الدين، وكأن عدل الله يُجزأ حسب الهوى.
أحسست بنبض سريع، وكأنه يطلب تفسيرًاً، فخاطبته قائلًا: "يا ترى، ماذا يقول اليساريون وهم يبررون القمع لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية؟ كيف يمكن أن ترفع شعار الحرية وأنت تُسكت أصواتًا تناقضك؟ وماذا عن الذين يتحدثون عن الكرامة، ثم يبررون سحق الكرامة باسم الوطن؟ كيف يكون الوطن عظيمًا إذا كان شعبه مسحوقًا؟"
ثم التفتُّ إلى العلمانيين: "كيف يمكن للعلمانية، التي تدعو إلى احترام حقوق الإنسان، أن تُستغل لتبرير الانتهاكات؟ أليس الإنسان هو مركز الفكرة كلها؟ كيف تُخنق الأصوات بحجة الحفاظ على النظام؟"
وأضفت: "أما الإسلاميون، الذين يتحدثون عن الرحمة والعدل، كيف يمكن أن يبرروا انتهاك الإنسان باسم الدين؟ أليس الإسلام دينًا يحرم الظلم ولو كان مثقال ذرة؟ كيف يُنسى قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يُعذِّبُ الَّذينَ يُعذِّبونَ النَّاسَ في الدُّنيا)؟ أيُعقل أن يستخدموا الدين، الذي جاء لرفع الإنسان، كذريعة لإهانته؟"
أردفت: "صديقي العزيز، الإنسان الحقيقي هو الذي يرى الإنسان كقيمة لا يمكن المساس بها، سواء كان هذا الإنسان مؤيدًا أو معارضًا، قريبًا أو بعيدًا. الإنسان الحقيقي هو الذي يعلو فوق التبريرات السياسية والإيديولوجية، ويدرك أن احترام الكرامة البشرية هو الأصل الذي لا يتغير".
تأملت قليلًا قبل أن أضيف: "يا قلب، هل يدرك هؤلاء أن الإنسان الذي يسكت عن الظلم أو يبرره هو شريك فيه؟ كيف نعيش في عالم يرفع شعارات كبرى، لكنه يغرق في تفاصيل صغيرة تجعلنا ننسى الإنسانية التي تجمعنا؟"
وتابعت: "لعل هذا الزمن يحمل دروسًا لنا جميعًا. دروسًا تقول إن المواقف والمبادئ لا تُختبر في الخطابات الرنانة، بل في لحظات القوة. فهل نكون جميعًا، يساريين وقوميين وعلمانيين وإسلاميين، إنسانًا أولًا، قبل أن نكون أصحاب شعارات؟ هذا هو الامتحان الحقيقي، امتحان الروح التي خُلقت لتحمل الرحمة، لا السيف".
وبينما كنت أتأمل الشاشة التي تظهر شراييني، قلت: "يا لعظمة التفاصيل الصغيرة! أنبوب صغير يتلمس طريقه وسط المتاهة، لكنه يحمل القدرة على إنقاذ حياة بأكملها. أليس هذا عجيبًا؟ كم نحن معقدون وبسيطون في آن واحد!"
ابتسمت من جديد، واستعدت صوتي الساخر: "لا تفرح كثيرًا، يا قلبي. القسطرة لن تحولك إلى قلب خارق؛ ستبقى مضطرًا لتحمل قهوة الصباح وأحزان المساء. ستبقى كما أنت، مضطرًا لتحمل شكاويّ وأحزاني. الفرق الوحيد هو أنك الآن ستعمل بكفاءة، كموظف أعادوا تدريبه ليصبح أكثر إنتاجية".
ثم، وكأنني أردت تخفيف حدة الجدية، قلت: "على فكرة، هل تعلم أن الأطباء هنا ربما يتحدثون عن العشاء وهم يتعاملون مع شراييني؟ نحن المرضى نتعامل مع الأمر بمنتهى الجدية، بينما بالنسبة لهم، قد يكون مجرد يوم عمل آخر. يا لواقعنا الهش!"
وهنا خطر لي الحديث عن المتكبرين مجددًا.. قلت بصدق ممزوج بالسخرية: "أتدري؟ أنا لا ألوم المتكبرين على غرورهم؛ فهم لم يروا هذه الشاشة من قبل. لو رأوا شرايينهم تتلوى كالأفاعي تحت المجهر، لفكروا مرتين قبل أن يرفعوا رؤوسهم على الناس. لو أدركوا أن بضعة ميليمترات من الانسداد قد تقذفهم من قمة الغرور إلى قاع التراب، لربما تعلموا التواضع".
وبينما كنت أشعر بوخزة طفيفة، قلت بمرارة ساخرة: "هل تعرف، يا قلبي، ما الشيء الأكثر غرابة؟ أننا جميعًا نعيش وكأننا خالدون. نظن أن الحياة طويلة بما يكفي لتأجيل الحب، والصداقة، وحتى الشكر. لا أحد يتذكر أن شريانًا واحدًا قد ينهي كل شيء في لحظة. حتى أنا، أجلس هنا الآن، أفكر في كل ما أجلته، وأبتسم بسخرية على غبائي".
أنهى الطبيب العملية، وقال: "تمت بنجاح.." فابتسمت وقلت لقلبي: "ها قد عُدت، يا صديقي. الآن، لنعِش ما شاء الله لنا من أيامٍ أخر، ولنحاول أن نكون أكثر امتنانًا...!"
وكررت: "أتعلم؟ ربما بعد كل هذا الألم، وبعد كل هذه الجروح التي نحملها، سنخرج أقوى. وربما، فقط ربما، سنتعلم أن نعيش حقًا، أن نحتفي بكل نبضة وكل نفس كأنه هدية ثمينة".
وهكذا خرجتُ من غرفة القسطرة، ليس فقط بقلبٍ أعيدت هندسته ليواصل النبض، بل بروحٍ تحمل درسًا ثمينًا عن هشاشة الحياة وعظمة التفاصيل الصغيرة التي تحكم مصائرنا. ربما كنا بحاجة إلى مثل هذه التجارب، لنتعلم أن الغرور ترف لا يحتمله شريان ضيق، وأن التواضع ليس مجرد فضيلة، بل ضرورة تضمن استمرار نبض الحياة... والإنسانية".