صنعاء 19C امطار خفيفة

الطفولة والعدالة الغائبة في اليمن

تناقضات متعددة تطفو على سطح المجتمع اليمني منذ نشوب الحرب في 2015م، لا سيما في ما يتعلق بحقوق الطفل في اليمن، وما يتضمنه هذا الملف من انتهاكات جسيمة تطال جسد الطفولة الغض، وتفقد الطفل الشعور بالأمان والاستقرار، وهما شعوران لهما أثر كبير في تشكيل شخصية الطفل ورسم مستقبله؛ فقد ازدادت معاناة الأطفال سوءًا بعد الحرب، وأصبحوا أكثر الفئات التي تجرعت مراراتها، وتحملت كلفتها الثقيلة على جميع الصعد، نفسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسلوكيًا وتعليميًا؛ إذ انخفض معدل التحاق الأطفال بالمدارس؛ لما تتطلبه الأخيرة من أعباء مادية إضافية، أدت إلى اضطرار كثير من الأسر إلى إخراج أبنائها من المدارس الحكومية التي لم تعد مجانية، والدفع بهم إلى الالتحاق بأسواق العمل بدلًا عنها؛ فالطفل المعرف عالميًا بأنه الشخص القاصر دون الثامنة عشرة من عمره، المفتقر للنضج البدني والعقلي، والمحتاج من ثم إلى الحماية والرعاية المتنوعة صحيًا وبدنيًا وسلوكيًا، يعود ليصبح هو العائل لأسرة كاملة، ومطالبًا بالإنفاق عليها، وتوفير احتياجاتها الضرورية، هذا الجسد الضعيف يزج به في الأسواق دونما رحمة أو تقدير لخصوصية سنه، وضعف قدراته؛ ليكون مصدرًا للرزق، وتحميله مسؤوليات كبيرة ليخوض بها معترك الحياة؛ فيواجه ما يعجز عن مواجهته الشباب أحيانًا.
 
يقول روسو: "إننا لن نعرف شيئًا عن الطفولة مادمنا ننشد الرجل في الطفل"، فترجيل الطفل يؤدي إلى الدفع به إلى متاهات الضياع؛ لذا تجده في أماكن لا يتصورها عقل اللبيب، في ورش الحديد والنار، وتحت السيارات وفوق الآلات، وفي أسواق القات، تلفحه أشعة الشمس المحرقة، ويجمد جسمه برد الشتاء القارس، وهو يسعى في الشوارع باحثًا عن لقمة العيش، يشتم الروائح الكريهة، ويحمل الأوزان الثقيلة التي تؤثر عليه جسديًا، يحبس دموع الألم ويكتم آهات الوجع لئلا يفقد عمله، بيئات مختلفة يخوضها الطفل تؤثر سلبًا على جسده وتفكيره وسلوكه؛ ويصير عرضة لما تقذف به الأسواق من مساوئ لا تتناسب وطهارته الطفولية؛ فينزلق في مزالق لا تحمد عقباها، تفسد سلوكه وتهدر طفولته؛ فتختفي براءته ونقاؤه، فحين تهدر الطفولة تغيب البراءة والخير والجمال.
 
والمثير للدهشة هو الإهمال الرسمي لهذه القضية وغض الطرف عنها، والاكتفاء بوضع قوانين لا تغادر الحبر الذي كتبت به، فضلًا عن ضعف لغتها التي تكتفي بالحظر فقط، ولا تبلغ بها حد التجريم، كما تنص عليه المادة 133 من قانون حقوق الطفل اليمني رقم 45 لسنة 2002م، التي تحظر عمل الأطفال دون الرابعة عشرة من العمر، فهل ترقى لغة الحظر إلى حماية حياة الطفل، أو منع فقده عضوًا من أعضائه الجسدية بسبب العمل ؟! وهل ترقى لحماية حياته العقلية والنفسية؟!
عدالة غائبة تمثلت في تدخل قانوني ضعيف بقوانين لا تعرف التنفيذ، وتقصير حكومي كبير يمنع تواجد الأطفال في بيئات تضرهم، وغياب إعلامي يهدف إلى توعية الأسر بخطورة الدفع بأطفالها إلى الأسواق، وبالمخاطر الكبيرة التي تهدد حياتهم؛ فتُرك الطفل وحيدًا يواجه الحياة القاسية.
 
والأدهى من كل ما سبق جر الطفل إلى مربع العنف جرًا؛ إذ يعطى الطفل سلاحًا يتدرب به على القتال، دونما خوف على حياته أو حياة الآخرين، ولا يدرك من يقوم بهذا العمل حجم الكارثة التي يقترفها، ففضلًا عن تعريض حياة الطفل للخطر، فهو يقدم على تلويث فطرة الطفل السليمة التي جُبل عليها؛ إذ لا يجتمع الخير والشر والسلم والحرب معًا في قلب واحد هو قلب الطفل الطاهر الممتلئ سلمًا وتسامحًا. إنه انتهاك صارخ ومتعمد لبراءة الطفولة، وتشويه لصورتها النقية، وانتهاك لما تنص عليه اتفاقية حقوق الطفل في الأمم المتحدة في المادة رقم 19 والمادة 27، من وجوب حماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أو...، فالأحرى وقاية الطفل من كوارث الحروب، وليس الزج به في معترك المعارك.
 
من كل ما سبق، يتضح غياب الجدية الرسمية في التعاطي مع حقوق الطفل، وحمايته من المخاطر التي تهدده، على الرغم من أن مستقبل أية أمة مرهون بتنمية الطفل تنمية صحية ونفسية وعقلية وسلوكية، وإشباعه بالعاطفة والأمان، وتوفير احتياجاته الضرورية من الغذاء والملبس؛ فعدم إشباع الطفولة يؤدي إلى اضطرابات سلوكية تؤثر سلبًا على الفرد، كالانزلاق في مزالق الأمراض النفسية، كما ترسم صورة قاتمة لمستقبل الفرد والمجتمع معًا. ستبقى معاناة الطفولة وجعًا تتقاسم مسؤوليته كل من الأسرة والمجتمع والسلطة، حتى يضطلع كل منهم بدوره للعمل على تجاوزها.
 
ذكر ما يعانيه المجتمع من أوجاع وما تطفو عليه من سلبيات، ليس الغرض منه تثبيط العزائم أو التشهير بأحد، ولكن وضع الأيدي على مكمن الداء للإسراع في طلب العلاج قبل أن تتفاقم حدته ويستعصي علاجه؛ فلا يبادر إلى العلاج إلا من اعترف بوجود الداء أولًا.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً