الإهداء:
إلى الصديق والرفيق، عبدالواحد غالب الزعيتري "المرادي"، كهوية سياسية حزبية.
قائد سياسي نظيف، يمتلك عقلًا فكريًا وسياسيًا مدنيًا تحرريًا وديمقراطيًا.
أحد تلاميذ "حزب البعث العربي الاشتراكي".
في أواخر النصف الأول، ومطالع النصف الثاني من الستينيات، كان من رموز الفكر السياسي الاشتراكي/ التقدمي، في قلب الحركة الطلابية اليمنية، في سوريا/ دمشق، فقد انحاز مبكرًا لفكرة وقضية اليسار الاشتراكي التقدمي..
وطني وقومي عربي بأفق ديمقراطي مدني، لم تكن له مصالح خاصة وهو في قلب قيادة الحزب، الذي كان يدير الدولة، كان يعمل دون كللٍ وبدأبٍ يحسد عليهما، من أجل الناس، وقريبًا من جميع رفاقه، خدوم/ اجتماعي، ومبادر في نجدة رفاقه في الملمات.
قاد، كسياسي ثوري نظيف، تنظيم معارك الكفاح السياسي، في قلب نضال "الجبهة الوطنية الديمقراطية"، في العديد من مناطق ارياف اليمن، حين كان الخطر محدقًا بمن يذهب إلى هكذا مواقع كفاحية.
لم يسعَ يومًا لمواقع ومناصب في الدولة، وقال هذا الكلام بوضوح، ونحن في قاعة دورة اللجنة المركزية، تمهيدًا لإقرار الموافقة على إعلان قيام دولة الوحدة بأيام قلائل، حين كانت هناك مواقع، ومناصب يمكن الحصول عليها بيسر، ولكنه ارتفع عن الصغائر الذاتية.
وطني جنوبي حتى العظم كخيار سياسي وطني، وقف مع قضية الحراك الجنوبي السلمي الديمقراطي من أول وهلة، ضمن أفق رؤية وطنية يمنية.
يمارس السياسة بروح صافية، وبفكر صادق واضح، ولا يهادن في المبادئ والقيم السياسية الكبرى، وفي الدفاع عما يعتقده، وعلى ذات الطريق الذي اختاره وهو في ريعان الشباب، وحتى وهو على بداية عتبة الثمانينيات من العمر.
كل التمنيات له بدوام وكمال الصحة، ومواصلة الرحلة/ المشوار، نحو دولة مواطنة وعدالة وحرية للجميع.
إن مصر وسوريا هما عمقنا القومي الاستراتيجي، لأنه لا حرب حقيقية بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا، وما يحصل اليوم في مصر، وفي سوريا ليس نهاية التاريخ.
فالشعوب والدول في صيرورتها التاريخية هما الأبقى والأخلد في الواقع وفي التاريخ، والحكام هم العابرون والطارئون.
سوريا ليست دولة طارئة في التاريخ السياسي العربي، هي أحد أهم أبعاد عمقنا القومي التاريخي، "لؤلؤة الشرق"، هي دولة مركزية، تحتل موقعًا استراتيجيًا "جيوسياسيًا" و"جيوستراتيجيًا"، دولة محورية تعرضها للتفكيك والتقسيم، وحتى للتبعية للمشروع الصهيوأمريكي، عبر تركيا العثمانية/ الجديدة، ستمتد آثاره السلبية إلى وعلى كل المنطقة العربية.
لقد أضاع الأسد الابن الفرصة بعد أن ركبه غرور الاستبداد في مواجهة ثورة الشباب السوري/ العربي السلمية، مارس 2011م، بالرصاص وبالقتل وبالبراميل المتفجرة، مما أتاح الفرصة لجميع التدخلات والاستقطابات والتجاذبات الخارجية، أن تحضر إلى قلب الساحة السورية، حرب/ حروب أنهكت الشعب، والدولة، وعلى السوريين اليوم أن يتعظوا من كل ما جرى لإعلان حضورهم الفاعل في قلب المشهد السياسي الوطني السوري، كأطراف سياسية، ومكونات اجتماعية ووطنية فاعلة، بعيدًا عن ثقافة الإقصاء والتهميش والحروب، والاستقواء بالأجنبي، عليهم أن يتعظوا مما جرى ويجري في ليبيا واليمن والعراق والسودان... والقائمة مفتوحة، لبدء صفحة جديدة تصالحية توافقية، لأن ما جرى لسوريا وفي سوريا يحتاج لسنوات طويلة لترميمه وإصلاحه.
على أنه، ونحن في سياق الحديث عن الاستبداد الأسدي، من المهم الإشارة إلى جملة من الإنجازات العلمية والتعليمية والطبية، فقد تم تدريس الطب في سوريا باللغة العربية، في عام ١٩١٢م، وهي قضايا وأمور تحسب لكفاح الشعب السوري، في سيرورته التاريخية، وللأنظمة الوطنية بعد الاستقلال، من أنها طورتها وحافظت عليها، مثل الحياة الاجتماعية المدنية، ونشر الثقافة القومية، والتاريخية والتراثية، ومكانة المرأة الإنسانية. كما لا يمكننا الحديث عن سوريا المعاصرة، دون القول بأن مهد نشأة الفكر القومي العربي، كان بدرجة أساسية الأرض الثقافية السورية، واللبنانية، ومن أن سوريا إلى قبل فترة بشار الأسد، كانت مكتفية زراعيًا واقتصاديًا، والأهم بدون ديون للبنوك الأجنبية، ولكنها إنجازات تاريخية تراكمية، على أهميتها، طمسها نظام الاستبداد العائلي بالقمع والإرهاب الفائضين عن حاجة الناس والمجتمع.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ تأسيسه، في السابع من أبريل ١٩٤٧م، كان رمزًا للوحدة الوطنية، والتحرر القومي، وأؤكد، مرة ثانية، أنه ليس صحيحًا ما يقوله ويكتبه البعض، في لحظة ردود فعل انفعالية/ عاطفية، مصحوبة بشيء من الوعي المذهبي/ الطائفي، من أن نظام حافظ الأسد، نظام "علوي/ طائفي"، كقاعدة، وبنية، ونظام حكم، فهو منذ البداية، انقلب على رئيس الجمهورية، نور الدين الأتاسي "سني"، وعلى الأمين العام المساعد، والقائد العسكري الكبير، صلاح جديد "علوي"، وعلى قيادات سياسية "علوية"، عديدة، وعلى قيادات بعثية "مسيحية"، و"درزية"، ووضعهم في السجون حتى الموت، وحين أطلق سراح القائد البعثي الكبير، إبراهيم ماخوس، من سجنه، تحت ظرف حالة المرض بالسرطان، وشفاه الله منه، وذهب إلى المنفى في الخارج، قال حافظ الأسد، قولته المشهورة: "هو خطأ لن يتكرر".
إن حافظ الأسد، بانقلابه، إنما انقلب على فكرة البعث الوطنية والقومية التحررية، ليؤسس حكمه العائلي، بالتحالف مع القوى الطفيلية التي ساعد وأسهم نظامه في إنتاجها كدروع وقاية وحماية له، شركاء في مصلحة بقاء النظام العائلي، على حساب رؤى وقيم، حزب البعث، هذا هو نظام حافظ الأسد، الذي ورث الحزب، والسلطة والدولة لابنه الطبيب.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي، هو حزب الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والباحثين، الذين أثروا المكتبة العربية، بإسهاماتهم، ولم يتحول إلى العكس، إلا مع الانقلابي حافظ الأسد، الذي حول الحزب التاريخي إلى مؤسسة إدارية، سياسية/ أمنية، في خدمة نظام الاستبداد العائلي، وطبقة الفاسدين، والطفيليين الذين تبرجزوا، وترسملوا، كفئات طفيلية، بعد التصاقهم بجسم الحزب، أولًا، والسلطة والدولة، ثانيًا، أو لاحقًا، كطفيليات، تنخر في جسد وبنيان الحزب، والدولة، أسهموا في تفكيك، وتمزيق المجتمع الوطني السوري، وتجويعه وإفقاره، فضلًا عن إهانة شعب بأكمله، ليستمر حكم الأسرة الأسدية.
اليوم، تقذف جماهير الشعب المقهورة بتماثيله، وتماثيل ابنه باسل "ولي العهد الأول الذي ذهب في حادث مروري غامض"، وصور ابنه بشار، إلى مزبلة القمامة، حيث يجب أن تكون، لتبقى صورة الشعب، وسوريا، كتمثال وحيد، في كل ساحات وميادين سوريا.
إن مأساة/ مشكلة، حزب البعث العربي الاشتراكي، تحت شعار: "وحدة حرية اشتراكية"، ورديفه، شعار: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وكذا تنظيم، حركة القوميين العرب، تحت شعار: "وحدة تحرر (حرية) ثأر"، أنه على نبالة هذه الشعارات، والمبادئ والأفكار والقيم، على أن مأساتهما، كانت في تحولهما إلى سلطة دولة، فقد تم تغليب شعارات الثورة، على الدولة، أقصد، فكر الدولة، وبناء الدولة، وهو ما انعكس بالسلب، على الحزب، وعلى الدولة، هذا أولًا، إذ تم إدارة الحزب والدولة بعقلية شمولية" كليانية"، لا ترى الآخر والمختلف "المغاير"، إلا خصمًا وعدوًا، وحتى عندما رفعت أدبيات البعث، وحركة القوميين العرب، شعار أو مبدأ "النقد والنقد الذاتي"، في أدبياتهما الحزبية، فإن ما تم حقيقة، إنما هو ممارسة بعد النقد، فقط، أي نقد الآخر، ولم نجرب، ونتعود، على نقد الذات، وهو ثانيًا، ومن هنا تراكم ومراكمة الخطايا الذاتية، فوق بعضها البعض، دون مراجعات نقدية، والسبب والأصل في ذلك، هو هيمنة العقل الشمولي، الأحادي، في التفكير، وفي الرؤية، ولذلك عندما تحول حزب البعث، إلى سلطة في سوريا وفي العراق، كانت نكبتهما، في إدارة الحزب الداخلية، وفي إدارة وبناء السلطة والدولة، كما هو الحال في تجربة "حركة القوميين العرب"، المركزية، وفي تطورها في جنوب اليمن، إلى "الجبهة القومية"، وصولًا للحزب الاشتراكي، حيث تمت ممارسة الفكر والسياسة والسلطة، وبناء الدولة، بعقلية شمولية، وعلى خلفية أيديولوجية "العنف الثوري"، ومن هنا مأساة/ مأسوية الممارسة في جميع هذه التجارب العربية الاستقلالية الوطنية، الحزبية، وغير الحزبية (العسكرية)، للسلطة، التي أودت بها إلى الضعف والتآكل والفشل على مستوى إدارة السياسة والسلطة.
على أن أسوأ وأبشع هذه التجارب، هو تجربة الاستبداد العائلي الأسدي الفاجع، وهو ما نحصد مراراته وآثاره السلبية في كل ما يجري في سوريا.. سوريا، الفكر والثورة والتاريخ، بعد أن آلت إلى استبداد عائلي، مفجع وكارثي، على الوطن السوري وعلى الحزب، وحتى على العائلة التي صار الكره والحقد والنقمة عليها، يتحول إلى أيقونة ونموذج للاستبداد العالمي، تردده وسائل الإعلام العالمية في كل مكان.. إنها جناية الاستبداد على الفكر، وعلى الحزب، وعلى الواقع.
إن كل ما سبق في سوريا تحديدًا، هو ما هيَّأ لكل ما نراه اليوم ماثلًا أمامنا في سوريا المتعبة والمنهكة بالحروب الداخلية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وانهيار سعر العملة/ الليرة، حتى وقوع سوريا تحت أكثر من أربعة احتلالات خارجية دولتية، فضلًا عن الاحتلالات المليشياوية المذهبية والطائفية.
إن سوريا بعد سقوط نظام الأسد الطغياني في حالة فرحه حرية بلا حدود، فرحة ظلت مقموعة ومكبوتة لأكثر من نصف قرن، فزوال حكم ونظام الأسد، مكسب استراتيجي للوطن السوري، المهم هو أن يتوحد السوريون جميعًا بدون استثناء، لبناء سوريا جديدة تحررية ديمقراطية وتعددية، سوريا على مقاس الشعب السوري، وليس على مقاس، حافظ، وابنه بشار، أو على مقاس "الخلافة الإسلاموية"، أو إعادة إنتاج صورة بائسة لنظام الحكم القائم في العراق، تحت الغطاء والرعاية والحماية الصهيوأمريكية، وهو ما تعد وتجهز القوى الإقليمية والدولية سوريا له.
أقول ذلك لأنني لست متفائلًا، على الأقل في الزمن القريب، وإن كنت أريد نفسي في موقع التفاؤل والأمل بأن الآتي أجمل، لأن ما أراه في واقع ما يجري في سوريا لا يبعث كثيرًا على التفاؤل، على الرغم من بعض الإجراءات الشكلية الخارجية في صورة أولى لبدايات انتقال شبه سلمي "وهمي"، للسلطة، لأن ذلك مرسوم ومضبوط له أن يكون كذلك، من الخارج الاستعماري الذي يدير ويتحكم حتى الآن بخيوط اللعبة، مع أنني من أعماق تفكيري وروحي أتمنى أن يخيب ظني لعدم التفاؤل، لأن سوريا الشعب العظيم والصابر، والدولة لا يستحقان ما جرى له طيلة الخمسة العقود من العنف والدم والقتل، في المرحلة الأسدية الإرهابية.
إن مصدر عدم التفاؤل حنى لا يقال إنني أرجم بالغيب، أو أنني أحمل أفكارًا سوداوية، أو أفكارًا أيديولوجية مسبقة، هو أن من يقف خلف ذلك الدخول العسكري الفصائلي المسلح/ المليشياوي، إنما هي دول عدوة لسوريا الشعب والدولة، بل وحتى التاريخ، وعمرنا ما سمعنا، كما يقول إخواننا المصريون "إن "الحداية" ترمي كتاكيت"، ونحن في سوريا اليوم أمام واقع معقد تحضر فيه الجماعات المذهبية الإرهابية، وهي بالعشرات ومن مختلف الجنسيات، وهي القوة القائدة والمتحركة حتى الآن في المشهد السياسي الجاري أمامنا، والقوى المدنية فيه، وهي صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، ضعيفة التأثير ومحاصرة، كما تحضر فيه القوى الإقليمية "تركيا"، والدولية، "أمريكا/ بريطانيا"، وحتى الكيان الصهيوني، وخاصة بعد سقوط نظام الأسد الاستبدادي العائلي، واقع تنتشر فيه ثعابين سمية قاتلة تريد اللعب على رأس الشعب السوري المقهور على أمره طيلة أكثر من خمسة عقود من الاستبداد.
بالتأكيد، سوريا موحدة وقوية وديمقراطية وتعددية، هي إضافة نوعية وطنية وتحررية قومية، وهو ما تخشاه وتخافه، أمريكا، والكيان الصهيوني، وتركيا العثمانية.
إن سوريا الدولة والشعب بعد سقوط نظام بشار الأسد الفار من العدالة أمام وفي مواجهة مشروع استعماري أعد له طيلة أكثر من أريع عشرة سنة، مشروع استعماري بغطاء أيديولوجي/ مذهبي طائفي/ ديني، عرقي مكون من خليط من الجماعات المذهبية الجهادية، الموجه جهادها وتوحشها ضد الحياة المدنية والديمقراطية، والتعددية، ولا يعول عليها في بناء دولة مواطنة وديمقراطية حديثة.
إن جماعة "هيئة تحرير الشام"، سليلة "القاعدة"، و"داعش" و"النصرة"، وحلفائها من المليشيات الإسلاموية، الموضوعة تحت قائمة الإرهاب في الأمم المتحدة، وفي قرارات العقوبات الأمريكية والأوروبية، لن تجد أمريكا وأوروبا حرجًا في رفعها من قائمة الإرهاب مادام دورها السياسي والوظيفي قد تحول في اتجاه خدمة المصالح الاستعمارية والصهيونية، وهو ما نسمع عنه في وسائط الإعلام الرسمية الغربية للتوجه باتجاه اخراجها من قائمة الإرهاب.
فبعد أن كانت أمريكا أعلنت عن جائزة بقيمة عشرة ملايين دولار لمن يساعدها أو يمكنها من القبض على أبي محمد الجولاني، أحمد الشرع بعد ذلك، هي اليوم تتواصل معه، وتفكر جديًا في رفعه وجماعته من قائمة الإرهاب، بشروط سياسية، منها قطع العلاقات مع روسيا وإيران، فضلًا عن عدم العداء للكيان الصهيوني، وهو شرط أساسي ومركزي.
إن أبا محمد الجولاني في الأمس، أحمد الشرع اليوم، يتحول كل منهما بقدرة وإرادة الاستعمار الجديد، من إرهابي مطلوب القبض عليه إلى رئيس انتقالي للدولة السورية، أو الشخص الأول في دولة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهو زعيم تحرير سوريا من "الاستبداد"، كما يعلنها الخطاب السياسي الإعلامي الأمريكي/ والأوروبي، والعربي، الذي يبشرنا بدولة الخلافة الإسلامية، على أيدي قتلة!
إنها آلة وأيديولوجية صناعة النجوم والزعماء والرؤساء والخونة التي يهندسها ويفبركها الإعلام الغربي الاستعماري، ولذلك لا يتوقف حديث الرئيس الأمريكي بايدن، وكل القيادة الأمريكية من أنهم سيشرفون ويساعدون على ميلاد دولة سوريا الجديدة، سوريا المطبعة مع الكيان الصهيوني والمطيعة له، سوريا، بدون الأسلحة الاستراتيجية للجيش الوطني السوري للدفاع عن نفسه وأرضه المحتلة، هذه هي سوريا الجديدة التي يركبون ويهندسون خرائطها مع الفاتحين الجدد، في غياب حقيقي للقوى السياسية والاجتماعية والوطنية والديمقراطية السورية.
إن القوى الحية، صاحبة المصلحة الحقيقية في الإصلاح والتغيير، لن يطول غيابها، بعد أن كسرت ودمرت حاجز الخوف، ودخل الشعب كله، بعد طول غياب ساحة وفضاء الحرية والديمقراطية والتعددية.
فلا يراهنن أحد في إعادة سوريا الشعب، والوطن، والدولة، إلى ما كانت عليه.
فالجماعات المليشياوية تحت قيادة "هيئة تحرير الشام"، الخليط الإرهابي المتنوع تحت الغطاء الإسلاموي، لم نسمع عنها حتى اللحظة، قول كلمة حق سياسية عن الكيان الصهيوني، وعن احتلاله لكل الجولان، واحتلاله أكثر من مائة كيلومتر داخل الأراضي الوطنية السيادية السورية، "القنيطرة" وعشرات القرى والمدن، ولم تتحدث عن تهجير سكانها واحتلالها! ولم تتحدث عن قصف وتدمير مراكز الأبحاث المدنية والعسكرية، وقصف وتدمير الأسلحة العسكرية الاستراتيجية السورية، البرية والجوية والبحرية، في جميع المناطق السورية، ولم تقل كلمة عن اغتيالات العلماء السوريين داخل الأراضي السورية، وعن فلسطين المحتلة تحت جرائم حرب الإبادة، ولن تقول كلمة، لأن الدول الكافلة والضامنة والممولة لن تقبل بكلمة نقد ضد الكيان الصهيوني، فأين إذن الشعار الإسلامي الذي يتحدثون عنه للدفاع عن الأرض والمقدسات في سوريا وفي فلسطين؟!
إن الدفاع عن الدين الإسلامي، يبدأ من الدفاع عن الناس، من الدفاع عن المقدسات الوطنية، والقومية، من الدفاع عن الأرض التي تستباح اليوم ومنذ أكثر من أسبوعين، هي لحظة اقتحام الفصائل الجهادية المسلحة المدن السورية، وكأن سقوط نظام الأسد، بداية لتوسيع وتعميق نطاق الأرض السورية المحتلة، ووضع سوريا في حالة استباحة كاملة لدبابات وجنود جيش العدوان الصهيوني في صورة دخول جيش وجنود وضباط الكيان الصهيوني إلى معظم الأرض السورية، حتى ريف دمشق، وإعلان نتنياهو أنها تحت الاحتلال للأبد، وقد أعلنها ترامب حين قال: "إن مساحة إسرائيل صغيرة ولا بد من توسيعها"!
وكانت مهمة "هيئة تحرير الشام"، والعشرات من الجماعات الإسلاموية، ليس التحرير، والحرية، بل تعبيد الأرض السياسية لاستكمال مشروع "إسرائيل الكبرى"، ومشروع تركيا العثمانية، التي ترى في أراضٍ سورية تاريخية، أنها من ممتلكات الخلافة العثمانية، وهو ما أقره البرلمان التركي، حول حلب، وحماة!
وقد أعلنها الزعيم الجهادي الإسلاموي الذي فتحت له القنوات العالمية الغربية/ الأمريكية "CNN"، وغيرها، للترويج لخطابه السياسي، وقد أشار في المقابلة، قائلًا بما معناه: "لماذا الخوف من الحكم الإسلامي؟!"، وكأن نظام الحكم في سوريا الاستقلالي قبل مجيئه، لم يكن بالإسلامي! وفي هذه اللغة والخطاب، نقرأ ونسمع فكر التكفير الديني، ضد ما كان عليه النظام السابق، هذا وهو لم يتثبت في كرسي الملك/ الخلافة!
وفي مقابلة مع "تايمز أوف إسرائيل" قال: "نحن منفتحون على الصداقة مع الجميع" في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، ليس لدينا أعداء غير نظام الأسد، وحزب الله، وإيران، وما فعلته إسرائيل ضد حزب الله في لبنان ساعدنا كثيرًا. وهو القول الذي يتفق مع رؤية وسياسة الراعي والممول الدولي الذي ساعد في اسقاط نظام بشار الأسد، المتهالك بالحصار وبالعقوبات، والاحتلالات الداخلية الإيرانية والروسية، التي أفقدت النظام ما تبقى له من سيادة ومن استقلال، ومن هنا سرعة سقوطه الذي كان متوقعًا من زمن مبكر، لولا الدعم السياسي والعسكري والأمني الإيراني، والروسي.
إن الاستبداد العائلي الأسدي، ضدًا على إرادة الشعب السوري العظيم، وثورته السلمية، هو ما قاده للارتهان للخارج، لحمايته، في مواجهته لشعبه، وقد أسهم النظام الاستبدادي الأسدي، بذلك في إضعاف ثقة الجيش بالحكم، وإلى تدمير معنويات الجيش السوري، بإهماله وتجويعه، والاستعاضة عنه بدور إيران وروسيا وحزب الله اللبناني، تحولت معه هذه الأطراف إلى مقررة وقائدة لكل الشأن السوري، وبقي بشار المدلل متوهمًا أنه الأقوى، وهو المحمول على أكتاف الدول والقوى الأجنبية، التي رفض في الأخير السماع لنصائحها بالعودة لشيء من الواقعية السياسية في التعامل مع شعبه، متوهمًا أنه قوي بذاته، وليس بالخارج الذي يحمله على أكتافه ويحميه، وما إن رفع الخارج الغطاء عنه حتى سقط مثل أوراق الخريف، في ساعات معدودة، بعد أن أصبح بشار ونظامه عبئًا على داعميه.
إن الشيء الثابت والأكيد هو أن بشار الأسد لم يؤسس للوجود الإيراني في سوريا، فقد بدأ والده ذلك، ولكنه كان قادرًا على إدارة لعبة السياسة، والسلطة والدولة، في البلاد، بتوازن، لصالح سوريا ولصالح جميع الأطراف، ولكن دون تدخل مباشر لإيران في الشأن السياسي والوطني السوري، ولكن يؤخذ عليه أنه انحاز لإيران القومية الخمينية في حربها ضد العراق، فضرب بذلك السلوك والموقف، الفكرة، والقضية القومية التي يرفعها كشعار، في مقتل، وجاء بشار المدلل، والمتوج بغرور السلطة التي لم يشارك في بنائها، وفي ظروف مختلفة، ليؤسس لعلاقة تابعة بالكامل مع إيران.
إن سوريا الشعب والثقافة والتاريخ، هي الحلقة المركزية الاستراتيجية الباقية في مواجهة المشروع الاستعماري التفتيتي والتقسيمي الذي أعده وأعلنه "برنارد لويس"، ووافق عليه الكونجرس الأمريكي في العام 1983م، وما يجري على الأرض اليوم إنما هي الصورة التنفيذية العملية لتجليات ذلك المشروع، والجولاني و"أحمد الشرع"، وغيرهما من الجماعات المليشياوية، ليسوا سوى تروس صغيرة، لزوم الحاجة التكتيكية، في طاحونة ذلك المشروع التفكيكي والتقسيمي لكل المنطقة، والذي لن يقف عند حد، من مصر إلى الأردن والسودان إلى اليمن وجميع دول الخليج.
كنت، وما أزال أريد وأتمنى أن أرى بعين عقلي، واقعًا معلومًا ومنشودًا، من الحرية الحقيقية، ومن بشائر العدالة، ومن السيادة، والاستقلال، ومن مقدمات لدولة مواطنة ومساواة، وهو أملي وتفاؤلي، على أنني -على الأقل- حتى اللحظة لا أرى سوى حالة مضببة من الفوضى، والمجهول.
ومن هنا حديثنا عن سوريا بين نظام الأسد العائلي الاستبدادي، وبين الفوضى والمجهول.
خلاصة القول:
إذا لم يقد ويمهد الإطاحة بنظام الأسد، إلى بداية فكرية وسياسية نوعية وجديدة، يحدث ويتم فيها تغيير حقيقي "جذري"، يشمل جميع نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والديمقراطية، باتجاه دولة عدالة وحرية ومواطنة، تطوى معه صفحة الأسد إلى الأبد، بمثل ما يجب أن تطوى صفحة علي عبدالله صالح، التي مانزال نعيد إنتاجها اليوم، في صورة ما يسمى "المجلس الرئاسي الانتقالي"، وصفحة حسني مبارك، وبن علي، والقذافي، والنميري، والبشير، والقادة الجدد من العسكر، في السودان، والمستبد المدني، دكتور الحقوق بطاقية/ كوفية، أمنية استبدادية، فضلًا عن ملكيات، مشايخ وأمراء وملوك الخليج، فإننا -قطعًاـ لن ننتقل إلى مرحلة إصلاحية، أو تغييرية جديدة، بل سنجد أنفسنا نعيد إنتاج ما كان، وربما أسوأ مما كان، وبخاصة في واقع التدخلات الخارجية، وبالذات مع حالنا في سوريا قيد البحث، مع الحضور الكثيف فيها للمليشيات العسكرية/ المذهبية/ الجهادية المسلحة بالجهل المسلح، والممولة من الخارج، وفي واقع حصار واستبعاد وضعف تمثيل القوى المدنية والديمقراطية، رموز الحداثة والتقدم الاجتماعي، الذين كانوا هم عمود وأساس ثورة الربيع العربي في سوريا، وهو ما يجعل تفكيرنا حول المستقبل "متشائل"، إذا استخدمنا تعبير ومصطلح الروائي السوري حنا مينه، إذ لا نرى في صورة ولوحة المستقبل في سوريا اليوم، سوى ملامح الفوضى والمجهول المفتوح على كل الاحتمالات، وهو ما أبصر ملامحه -مع الأسف- في صورة ما يجري اليوم في سوريا، ما بعد الأسد، بل في العديد من أقطار الوطن العربي.