اليوم ليس لدينا الصبر لنصل إلى نقطة الصمت التي وصل إليها صاحبنا ورفيقنا عبدالسلام قاسم الخطيب، بعد تجربة حافلة بالنضال والتعب والانكسارات.
الكتابة عن هؤلاء واجب وطني وإنساني. وبسببهم نحن نبحث عن أنفسنا وعن أرواحنا التي تاهت في منتصف الطريق، أو لنقل إنها تاهت في بداية الطريق، وأضاعت البوصلة منذ البدايات.
مايزال هذا البلد بكرًا برغم كل شيء، ومايزال هناك أمل.
هكذا كتبها لي لأنه لا يريد الكلام في السياسة، فقد تعب وشاخ وشاخت معه أحلامه كما توقعت.
لم يعد في أفق اليمن من نحتفي به غير هؤلاء الذين يعيشون وسط أحلامنا وبين أحزاننا التي تتجدد كل يوم على وطننا الذي يهرب منا بسرعة الضوء ليتحول إلى أموال في جيوب الآفاقين ومسوخ السياسة.
سقط الجميع بين عناوين الفساد والمال السياسي والعمالة والمجد الشخصي التافه، ولم يتركوا لنا فرصة للبقاء على قيد الحياة أنقياء كما نريد ونحب ونحلم.
نتحرك نحن هنا بين جثث الموتى وشبح الموت والمرض والفقر والجهل الذي يتمدد فوقنا وفوق وطننا دون رحمة ودون شفقة.
انظر إلى الخارج، فالفقراء والأمراض والأطفال يملؤون الشوارع.
كان هدفنا محاربة هذا الثالوث (الفقر - الجهل - المرض).
واليوم كما ترى وتشاهد كل هذا البؤس.
هكذا قال لي واستمر:
نحن الآن نراقص جثث الموتى، لنتجرع مآسي مشاهدتها وهي تتساقط من حولنا.
كتوصيف دقيق لما يجري ويحدث هنا يا رفيق!
قالها وغصة في حلقه ودمعة تتشكل في عينيه، ليبدو الموقف أكثر صعوبة.
لقد كان الحلم كبيرًا بوطن يسند عليه اليمنيون ظهورهم، واليوم كما ترى بأم عينيك أحوال هذا الشعب البائس.
يبدو أنني أخرجته من صمته قليلًا، ليواصل حديثه الهادئ معي:
أنا يوميًا في الصباح ستجدني هنا في مقهى حصن الدملؤة، مع أصدقائي عبدالكريم وأحمد عبده سيف، وبعد العصر في مقهى عبدالجبار، وملتزم الصمت، لأن وقت الكلام قد انتهى، ولا شيء يمكن الحديث فيه غير هذا الخراب الذي تشاهده في كل أنحاء اليمن، وهو الذي يتكلم ويعبر عن نفسه بكل وضوح وبدون رتوش.
كما أن سمعي قد ضعف، وهذه السماعة التي على أذنى لم تعد تعمل، وأنا غير مكترث لأنني لا أريد أن أسمع شيئا.
كما أن ذاكرتي بدأت تفقد قدرتها على العمل من كثرة ما مر على هذا الوطن من مصائب وكوارث ونكبات وانهزامات.
وأساسًا لم يعد هناك شيء لنقوله ونتحدث عنه، فقد ذهب الحلم الجميل بوطن يلم شتات اليمنيين، ودولة مدنية نحس معها بالأمل، وأننا فعلنا شيئًا في هذه الحياة.
إنه طريق مظلم ومجهول، ومستقبل عنوانه الفقر وإذلال الناس وليس أكثر.
اليوم لم يعد هناك متسع من الكلام، فالصمت أصدق من ملايين الخطب كما قال شاعرنا وحكيمنا عبدالعزيز المقالح.
إلى هنا وانتهى الكلام...
ملتزم الصمت هذا كان عضوًا في الحزب الديمقراطي الثوري، ثم حزب العمل.
في البدايات عمل في مصلحة الطرق، ثم البنك المركزي في الحديدة، ومنه اقتيد إلى سجن الأمن الوطني لمدة سنة، عاد بعدها للعمل في البنك بمدينة صنعاء، ووصلت له معلومات بنية اعتقاله، وقرر الهرب إلى قريته، وبعدها عاد إلى مدينة صنعاء، ليتم اعتقاله لمدة بسيطة، وتعرض للتعذيب والضرب، بعدها خرج للعمل، وتنقل للعمل مع مؤسسات متعددة في القطاع الخاص، وفتح مشاريع خاصة به (مكتبة - محل تصوير - مطبعة).
في العام 94م تسلل اليأس إلى حياته، وفقد الأمل ببناء دولة تحفظ حق كل اليمنيين في الحياة والعمل والحرية والكرامة.
في العام 2011 م عاد أمله من جديد، وتحركت دماء الثورة والحرية في عروقه، وشارك كل الثوريين أحلامهم لبناء الدولة المدنية الحديثة، ولكن ذهبت الدولة والثورة والحرية إلى المجهول، وتحولت إلى فوائد وأموال وعقارات لدى تجار الحروب وقيادات الأحزاب ونخاسي السياسة.
مازال رفيقنا يقاوم بالصمت كل هذه الانهزامات والانكسارات التي حلم يومًا ما في الانتصار عليها.
إنه صوت الصمت العالي والمرتفع.