الإهداء:
إلى فيصل عبداللطيف الشعبي، قائدًا سياسيًا وحزبيًا ووطنيًا كبيرًا.. لا يمكنك أن تقرأ تجربة التنظيم السياسي الثوري دون أن يكون اسمه ودوره على رأس هذه الأسماء، فقد كان فيصل، وسلطان أحمد عمر بدرجة أساسية، ومعهما، على أحمد السلامي، وعبدالحافظ قائد، هم من شكلوا النواة الأولى لقيام تنظيم حركة القوميين العرب في كل اليمن.
فيصل عبداللطيف الشعبي، عقل فكري وسياسي وتنظيمي لا يستهان بدوره، في قلب تجربة التحرر الوطني، وعملية التحرير لجنوب اليمن حتى الوصول إلى الاستقلال الوطني، وقيادة تجربة بناء الدولة.
هو أحد أعضاء الوفد المفاوض في جنيف، ولعب دورًا فاعلًا ومتميزًا في مجرى المفاوضات، وهو ما سمعته من القائد المؤسس للحزب الاشتراكي عبدالفتاح إسماعيل، في منفاه، الذي كان يجمع بين المنفى الاختياري والإجباري.
من عرفه -فيصل- عن قرب يحكي عن أنه ليس فقط دمث الأخلاق، بل محاور متمكن، ويتميز بالشجاعة في التعبير عن قناعاته، ومن أنه يتميز -كذلك- بقدر عالٍ من الصدق في علاقاته مع من حوله، محب لرفاقه، وعلى قدرٍ كبير من التسامح بعيدًا عن العصبية المناطقية والقبلية، كان قريبًا من قحطان الشعبي الرفيق والرئيس، ليس على أساس ما يجمعهما من قرابة أسرية، بل لتوافق رؤاهما، ومنطق تفكيرهما حول قضايا تجربة الثورة وبناء الدولة.
إعدامه بتلك الطريقة المسيئة التي تمت، هو في تقديري بداية العد التنازلي المبكر للوقوع أكثر في قعر الشمولية والاستبداد بالرأي، وتغييب الديمقراطية داخل بنية التنظيم، وبعد ذلك الحزب الاشتراكي، والتي انعكست سلبًا على كل تجربة بناء السلطة والدولة في جنوب البلاد، وصولًا إلى كارثة ١٣ يناير ١٩٨٦م.
لروحه الرحمة، ولاسمه الخلود في ذاكرة الحزب والوطن والشعب.
لا أتصور أن الباحث الموضوعي يمكنه أن ينكر وجود صراع سياسي واختلاف في رأس قيادة الجبهة القومية، ولكن الخلاف كان حول أمرين: الأول طبيعته، هل هو صراع قبلي مناطقي جهوي؟ وحقيقة الأمر أنه لم يكن له أية صلة أو ارتباط بمثل هذه القضايا والمفاهيم، وبخاصة في هذه المرحلة المبكرة من الصراع قيد البحث، وثانيًا مضمونه، فيما إذا كان يعكس حالة فرز صراعي أيديولوجي (نظري) وطبقي، أم هو صراع سياسي اعتيادي يدور حول قضايا السياسة والسلطة وكيفية الإدارة وقيادة التحول السياسي نحو بناء الدولة، شهدته معظم تجارب حركات التحرر الوطني في العالم. والأمر الآخر، هل كان ضروريًا حسمه بالإقصاء والعنف والتصفيات الجسدية، ونعت الآخر المقصي بأقسى النعوت والتصنيفات التي تخرجه من دائرة الثورة (الرجعية/ التخلف/ العمالة)؟
في تقديرنا، أن كتاب اللجنة التنظيمية "كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية؟"، كان خطوة أولى صحيحة وسليمة وواقعية (نظريًا)، تتلمس بداية الطريق القويم في بناء علاقة سوية تصالحية تسامحية بين أطراف الصراع في قيادة الجبهة القومية، دون منتصر ومهزوم، ودون خطاب يسار تقدمي ويمين رجعي.
لقد تضمن كتاب اللجنة التنظيمية، في الرد على نائف حواتمة وطروحاته النخبوية (الأيديولوجية/ الطبقية)، "الانتقائية"، في تفسير وتحليل وتوصيف واقع الصراع في قيادة الجبهة القومية، تضمن الردود النقدية التالية: "هل عاش نائف حواتمة واقع الثورة في الجنوب فعلًا، أم أنه وقع أسير التصورات المسبقة والقناعات الذاتية التي لا تفهم الواقع إلا من خلال هذه التصورات.. ومما طرح أمامه خطأ من بعض الرفاق (...)". وفي موضع آخر جاء في الكتاب: "لا شك أن نائف حواتمة كان ومايزال تنقصه حقيقة البنية الاجتماعية لمجتمع الجنوب وعلاقاتها، وتكويناتها الطبقية في مرحلة النضال المسلح، وفي المرحلة التي تلت الاستقلال، الشيء الذي جعله يحاكم الثورة وفق قاعدة رياضية بحتة، في حين أن الثورة لا تقبل كل ما هو مسبق، لأنها علم معرفة الواقع".
ففي عدة قضايا تناولها كتابه "أزمة الثورة في الجنوب اليمني"، ينطلق بفهمين للتجربة: الأول قائم على أساس فهم لنظرية جاهزة، وخاطئة للواقع المعاش في هذه المنطقة، وقد جره هذا الفهم إلى طرح قضايا نظرية مركبة عليها بطريقة متعسفة للغاية، أمثلة غير دقيقة وأمينة مثل قضية الدولة وماهيتها، وخطان متعارضان في "مؤتمر زنجبار".
والثاني قام على مجرد انطباعات وتصورات ذاتية حول مجموعات مناضلة في الجبهة القومية كالأخ الرئيس قحطان الشعبي، سيف الضالعي، عبدالقادر أمين، أحمد صالح الشاعر، فيصل عبداللطيف، محمد البيشي، محمد علي هيثم، عبدالملك إسماعيل، ومجموعة شرفاء من أعضاء الجبهة القومية في المؤسسات العسكرية، الذين لهم دورهم ورصيدهم النضالي المشرف في هذه الثورة(1).
وستلاحظون أن جميع الأسماء المشار إليها/ إليهم، محسوبة على جناح أو طرف في الصراع، هو الطرف المحسوب على الرئيس قحطان، ودفاع مباشر عنهم حول ما أورده نائف حواتمة حولهم في كتابه من نقد، تحت عنوان "خطان متعارضان"، وليس لي تعليق على ذلك، سوى أنه محاولة لتقديم خطاب مصالحة، بين الطرفين، في رأس قيادة الجبهة القومية.
وفي الكتاب مناقشات نقدية لطروحات نائف حواتمة في كتابه، فيها من السجال النقدي، وفيها من الوقائع الداحضة لجوهر طروحته حول الفرز النظري والأيديولوجي والطبقي.
وفي الكتاب تساؤل نقدي عميق، انطلاقًا من طروحات نائف حواتمة، حول الصراع الأيديولوجي والطبقي، إذ تتساءل اللجنة التنظيمية التي صاغت الكتاب: "ولكن لماذا لم تفهم مجموعة ما تسمي نفسها باليساريين في حركة القوميين العرب مركزيًا، ولم تتمكن من التقاط مدلولات التطور الطبقي في أوضاع كل من الجبهة القومية وجبهة التحرير؟"(2).
ومع أن جزءًا من ردود كتاب اللجنة التنظيمية انحصر في التركيز على الدفاع عن قحطان الشعبي والطرف الذي يمثله، إلا أننا نجد ذلك مبررًا ومفهومًا، لأن كتاب نائف حواتمة غمرهم بنقده الفائض عن الحاجة الموضوعية، وهو من المبادرين الأوائل في نشر وتصميم وتعميم اصطلاح اليمين الرجعي واليسار التقدمي تفسيرًا وتأويلًا لطبيعة الصراع السياسي الذي كان قائمًا في رأس قيادة الجبهة القومية.
ونحن هنا ليس لنا اعتراض نقدي مسبق على مفهومي اليسار واليمين، وحتى على المحمولات التي قد تحملها في سياق هذه التجربة السياسية أو تلك. فهذه أمور وقضايا تقرأ دائمًا في سياقها الموضوعي، والذاتي، والتاريخي، كما أن هذه الاصطلاحات والمفاهيم شاعت وراجت في العالم كله، وأخذت مكانها في الكتابة والقاموس النظري والفلسفي والسياسي.
وكل ما نقوله أو نعترض عليه هو إسقاط هذه المفاهيم والاصطلاحات، إسقاطًا تعسفيًا، على تجربة قيادة الجبهة القومية، والحزب الاشتراكي اليمني لاحقًا، إذ اتخذت منحى فرض الطرف المنتصر كتابته للتاريخ بما فيه فرض مفاهيمه واصطلاحاته وتصوراته على الطرف الآخر المختلف معه وفقًا لقناعاته الذاتية الخاصة -وفي غياب الطرف الآخر- وليس وفقًا لمجريات وحقائق ووقائع الصراع الذي جرى، والذي أساسه وجذوره سياسية، وذاتية، ومن أجل الهيمنة على السلطة وقيادة التنظيم (الجبهة/ الحزب)، بما لا يعني أنه لم تكن هنالك قضايا موضوعية؛ سياسية، واجتماعية واقتصادية، كان يجري الاختلاف حولها، لأن ما نعترض أو نختلف عليه هنا، هو حول طريقة ووسيلة حسم ذلك الصراع والاختلاف.
وفي هذا الصدد والسياق، نرى أن الجبهة القومية كانت يسارًا في رؤيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت يسارًا بالنسبة لحركة القوميين العرب مركزيًا، كما كانت يسارًا بالنسبة لرابطة أبناء الجنوب العربي، وحزب الشعب الاشتراكي والاتحاد العمالي، وكانت يسارًا بالنسبة لما هو سائد في المنطقة العربية (الجوار).
وفي هذه الحدود، قد نتفهم الأمر. أما حين يعكس سياسيًا وبصورة نظرية على واقع الصراع في قلب قيادة الجبهة القومية، أقصد مصطلحات، اليمين، واليسار، فإننا لا نرى الأمر يعدو أكثر من كونه قراءة أيديولوجية سياسية (ذاتية)، ضعيفة الصلة بحقائق ووقائع الأمور في واقع قيادة الجبهة القومية المعقد والمتشابك، والتي لا تتيح لنا الحديث عن فرز نظري (أيديولوجي/ طبقي)، وعن فرز مفاهيمي أيديولوجي/ سياسي يقوم على محددات اقتصادية اجتماعية واضحة، ومبلورة في الواقع، ومن هنا لا نرى في تسمية اليمين واليسار، وصولًا لليسار الانتهازي والطفولي في مقابل اليسار التقدمي والثوري، أي معنى يمكن أن يعتد به في أي تقييم لطبيعة الصراع السياسي في رأس قيادة الجبهة القومية.
إن معظم قيادات الجبهة القومية -في العموم- قبل الاستقلال وبعده وحتى تأسيس الحزب الاشتراكي، معظمها من منابت اجتماعية طبقية فقيرة ومتوسطة، فلاحية وعمالية، وبرجوازية صغيرة، وهذا ينطبق على لوحة القيادة العامة للجبهة القومية فالفوارق في ما بينهم من الناحية الاجتماعية والطبقية محدودة، كما أن الاستيعاب النظري لأيديولوجية الاشتراكية العلمية بينهم كانت مساحته صغيرة نسبية و"نخبوية"، في العلاقة مع النظرية والفكر. وجميعهم رفاق سلاح، وفكر، في قلب عملية التحرر الوطني "الفدائية"، في جنوب البلاد، لذلك لا نجد مبررًا لتوصيفات وتصنيفات اليمين الرجعي واليسار التقدمي، واليسار الانتهازي من أحداث إزاحة قحطان وتصفية فيصل عبداللطيف الشعبي إلى تصفية سالم ربيع علي، القائد الوطني، ورجل الدولة، حتى الأحداث المأساوية لكارثة/ جريمة، 13 يناير 1986م، التي ذهب ضحيتها الإجرامية، معظم قيادات الصف الأول للحزب.
وهنا نجد أنفسنا متفقين مع ما أورده محمد سعيد عبدالله (محسن) حين أشار قائلًا: "إن كل قيادات الجبهة القومية التي وصلت إلى السلطة بدرجة أساسية، إذا عدنا إلى طبيعة التكوين الطبقي والأيديولوجي لقيادة هذه التيارات، سنجد أنه تكوين برجوازي صغير يستند إلى قاعدة فلاحية، وأن المواد التثقيفية التي تربت عليها كان أساسها الفكر القومي التحرري المعادي للاستعمار والرجعية من جانب، والمحارب للشيوعية من جانب آخر. وقد لعب التيار القومي الذي كان تأثيره في تزايد في اقتناع الحركة الوطنية اليمنية"(3).
وهي ظاهرة عربية، وعالم ثالثية، بهذه الصورة أو تلك.
هناك عنف ثوري مسلح نتفهمه ونشرعنه في مواجهة الاستعمار وحلفائه وأعوانه (الأنجلو سلاطينيين)، ولكننا لا نستطيع أن نفسر ونبرر أو نتفهم التصفيات الجسدية والدموية مع المعارضين والخصوم السياسيين في خارج الجبهة القومية، وقد طال مئات الأسماء والرموز، خارج الجبهة القومية، وفي داخل الجبهة القومية بعد ذلك، تحت تبريرات أو مسميات تخص مطلقيها، ولا صلة لها حقيقية بالمسميات الواقعية أيًا كانت.
إن غياب الثقافة الديمقراطية، كوعي ثقافي/ اجتماعي، وبنى، وأنظمة، ومؤسسات، داخل الحزب، وفي إدارة السلطة/ الدولة، هو الذي جعل عملية انتقال السلطة في داخل الحزب، وفي إدارة سلطة الدولة، غير ممكن، إلا عبر منطق القوة، أو توازنات القوة، الذي إذا ما اختل يقود إلى إنتاج دورات العنف مع كل عملية انتقال سياسية للسلطة، تنعكس بالضرورة سلبًا على بنية الحزب، وعلى الدولة وعلى المجتمع.
ومن هنا أهمية إعادة قراءة التجربة السياسية اليمنية، في الشمال والجنوب، بما فيه في السياق الذي نبحث فيه، تجربة تنظيم الجبهة القومية، والحزب الاشتراكي، ضمن منظور فكري عقلاني نقدي "أكاديمي"، برؤية معرفية ثقافية مفتوحة، وهو ما قد يساعدنا أكثر على التحرك للأمام "المستقبل"، ونحن في حالة تخفف من حمولات عثرات الماضي، وتأكيدًا للإيجابيات/ المكاسب، العظيمة التي أنجزتها وكانتها التجربة في جنوب البلاد، في مرحلة التحرر الوطني، حتى إنجاز الاستقلال الوطني الكامل والناجز، في ٣٠ نوفمبر١٩٦٧م، وصولًا لإنجاز الوحدة اليمنية، بعد إصرار الحزب الاشتراكي اليمني، على ربط الوحدة بالتعددية، وبالديمقراطية، حتى كان الانقلاب على الوحدة السلمية، بالوحدة بالحرب وبالدم، تحت عنوان "الضم والإلحاق"، وعودة "الفرع للأصل"، والعودة بنا ثانية، لما قبل الجمهورية، وما قبل الدولة، كما هو حاصل اليوم.
وعند هذه النقطة نقف في بحث ومناقشة هذا العنوان أو المبحث الذي نجده يشكل خلفية ومقدمة لقراءة علاقة الجبهة القومية بالسلطة وصراعاتها الداخلية(4).
بل هو مدخل لقراءة كل تجاربنا السياسية، كأحزاب، وأنظمة سياسية، في الشمال والجنوب، قبل الوحدة، وبعد قيام الوحدة، وحتى ما يجري اليوم في كل البلاد.
الهوامش:
1- اللجنة التنظيمية للجبهة القومية: علي عبدالعليم، عبدالفتاح إسماعيل، خالد عبدالعزيز، فيصل عبداللطيف الشعبي، كتاب "كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية"، ص10+13، دار الطليعة، بيروت، ط1، نيسان (أبريل) 1969م. وكما هو ملاحظ أن تشكيل اللجنة في غالبيتها يعكس رؤية طرف في الصراع، وواحد فقط، الذي هو عبدالفتاح إسماعيل، الذي يمثل وجهة ورؤية الطرف الآخر، وهذا يتضح من توجه الكتاب في دفاعه عن طرف جرى نقده من قبل نائف حواتمة، مع أن نقد نائف فعليًا شمل في العموم كل القيادة بتركيز سياسي خاص على الطرف الذي سمَّاه اليمين في القيادة، ومع ذلك يمكن اعتبار الكتاب -أقصد كتاب الجبهة القومية- وثيقة أولى نحو التصالح والتسامح، الأولي الذي جرى القطع معه، عوضًا عن تنميته وتطويره لتخفيف عبء العنف والإقصاء.
2- اللجنة التنظيمية: نفس المصدر، ص68.
3- محمد سعيد عبدالله (محسن): كتاب "عدن كفاح شعب وهزيمة إمبراطورية صفحات من تاريخ الثورة اليمنية"، دار ابن خلدون/ بيروت، دار الأمل اليمني للنشر، طبعة منقحة، يوليو (تموز) 1989م، ص47+48.
4- وفي سياق رد اللجنة التنظيمية للجبهة القومية "كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية"، جاء التالي في سياق نقد الإجراءات الثورية في حضرموت: "إنه ليس هناك في الجبهة القومية يمين ويسار كما يقرر نائف حواتمة، بقدر ما كان الأسلوب الخاطئ الذي اتبع في حضرموت، والذي أدى إلى مضاعفات ونتائج خطيرة على التجربة"، ص132. إن علي ناصر محمد، في البيان الذي نشره إثر مجزرة اللجنة المركزية، يسمي معارضيه "اليمين"، كما يشير إلى ذلك فواز طرابلسي في كتابه "جنوب اليمن في حكم اليسار"، ص150.