سيطرت هيئة تحرير الشام بقيادة السيد أحمد الشرع، على سوريا بدءًا من حلب الشهباء حتى دمشق الفيحاء، خلال أحد عشر يومًا، وبالتالي سقط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر 2024م، وخرج الرئيس بشار الأسد من قصر الحكم الدمشقي بعد أربع وعشرين سنة وستة أشهر، متوجهًا إلى موسكو.
الجدير بالذكر، استقبلت الجماهير النظام الجديد في دمشق، استقبال الفاتحين، رافعين القائد العام لهيئة تحرير الشام أحمد الشرع، على الأكتاف، واعتبروه منقذًا لهم من النظام الشمولي الذي استمر يحكم سوريا بالحديد والنار، زهاء خمسة عقود من الزمن، عاشوها -حسب قولهم- في سجن كبير، وفساد مستشرٍ، وقتل بالجملة، تخالهم كأنهم ولدوا من جديد، وبخاصة بعد أن فتحت الزنازين المرعبة أبوابها أمام مراسلي العالم، ورصدهم بقايا آلاف الجثث، والعظام المدقوقة، وآلات الصعق، وكل أدوات الموت.
حقًا، إنه لم يكن يخطر ببالي، وأنا متعصب لسوريا الحبيبة، أن أرى مشاهد تلك المأساة والعذابات التي يشيب لها الولدان، ماثلة أمامي، ولم يسبق لي أن قرأت أو أبصرت أو سمعت مثيلًا لها في حياتي بهذا الشكل الفظيع.. الأمر الذي جعلني أستحضر بيتين من الشعر لأبي تمام الطائي:
يا هول ما ابصرت عيني وما سمعت
أذني فلا بقيت عيني ولا أذني
لم يبقَ من بدني جزء علمت به
إلا وقد حله جزء من الحزنِ
أعمال مريعة كانت تمارس ضد من يعارض السلطة، أو ينبس بكلمة لا تعجب جلاوزة النظام.
وحسب مراقبين، فإن كل ما كان يدور في سوريا قد تجاوز الرق الإنساني والآدمية إلى ما هو أبعد.
ما زاد الطين بلة، أن كل متابع شاهد مصانع الكبتاغون، والمخدرات بأنواعها، والتي يجري تسويقها في البلدان العربية وغيرها، هاله الأمر، ولم أصدق بنفسي أن ذلك كان يحدث في سوريا الحبيبة التي طالما تغنينا بأمجادها، وعروبتها، ومعاليها، وحضارتها.
تلك الأمور، جعلتني أعود لألقي نظرة تاريخية على بلاد الشام التي تعتبر محط فخرنا واعتزازنا، وستظل مهما قسا الزمن في حدقات عيوننا:
1. أ. الشام مهد الحضارة الفينيقية.
ب. الشام بلاد الغساسنة من العرب العاربة، هاجروا من اليمن إلى الشام.
2. الشام مقبرة للغزاة الروم، والفرس، والمغول.
3. انتصار الشام بقيادة آخر الخلفاء الأمويين (مروان بن محمد) عام 1048م، على أقوام وثنية من مغول، وأتراك، وبلغار، وروس، قدموا من أواسط آسيا، واستقروا جنوب بحر قزوين أو ما يسمى بحر الخزر، ورئيسهم الخاقان، اعتنقوا الديانة اليهودية (تهودوا)، وأسسوا هناك إمبراطورية تجارية كبرى (650-1048م)، وشكلوا حاجزًا بين آسيا وأوروبا.. وبعد هزيمتهم لاذوا بالفرار إلى جميع أنحاء أوروبا في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، وشكلوا هناك شركات تجارية كبرى، ومايزال أربابها حتى الآن يسيطرون على التجارة والبنوك والقرار السياسي في دول الغرب.
4. بسط الحكم الأموي نفوذه من الشام حتى الأندلس (إسبانيا والبرتغال) غربًا، ووسط آسيا والصين شرقًا.
5. الشام الأرض الطيبة التي دفن في ثراها العطر الصحابي القائد خالد بن الوليد، بطل الفتوحات الإسلامية، والقائد صلاح الدين الأيوبي، هازم الصليبيين في القدس، والقائد طارق بن زياد، فاتح الأندلس.
6. الجيش اليمني في الشام كان يمثل الركيزة الرئيسة للخلافة الأموية وتوسعها إلى سائر الأمصار في آسيا، وشرق إفريقيا، والأندلس، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر القائد عبدالرحمن الغافقي المدحجي الذي وصل بجيشه إلى بلاد الغال (فرنسا)، وهزم "الإفرنج"، واستشهد على حين غرة في معركة "بلاط الشهداء"، وأقيمت له هناك مراسيم جنائزية مهيبة، ومن القادة اليمانية السمح بن مالك الخولاني، خامس ولاة الأندلس، وفي المشرق القائد محمد بن القاسم الثقفي اليماني، فاتح السند، ومثله من القادة من توجهوا إلى وسط آسيا، وشرق الصين، وأصبحت قبور هؤلاء القادة مزارات في شمال إفريقيا ووسط آسيا.
7. حلب الشهباء هي بلد سيف الدولة الحمداني الذي قارع الروم وهزمهم دفاعًا عن الدولة العباسية التي بدأت تتفكك إلى دويلات، وأقام معه أبو الطيب المتنبي -أحمد بن الحسين الخفجي اليماني، أشعر شعراء العرب قاطبة- لبضع سنوات، ثم واصل رحلته إلى مصر في عهد الأخشيديين، وإلى فارس في عهد البويهيين، واستشهد في كمين نصب له وهو في طريقه إلى مقره في العراق.
8. ويكفي الشام واليمن فخرًا، بقول نبينا الكريم محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا بشامنا، اللهم بارك لنا بيمننا..".
هذه هي سوريا المجد والتاريخ العريق.
ومع مرور الزمن، تبدلت الأحوال، وأصبحت بلاد الشام والعراق وشمال إفريقيا، بعد الحرب العالمية الأولى، تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني، ولا ننسى القائد "غورو" الذي وصل بمركبه إلى أحد موانئ سوريا، فبدلًا من الذهاب إلى مقر انتدابه في دمشق، توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، ورفع قبعته قائلًا: "ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين". كما سلم القائد العسكري البريطاني المنتدب في فلسطين، أكثر من نصف مساحة فلسطين لإقامة دولة يهودية صهيونية، بالتآمر مع دول الغرب.. ومايزال العالم العربي مثقلًا بتركة سايكس بيكو، ورهنًا للتدخلات والأطماع الخارجية في فلسطين، وسوريا، ودول عربية أخرى، وبخاصة منذ السبعينيات من القرن الماضي (الـ20)، بغية تنفيذ مخططات استعمارية صهيونية توسعية.
صفوة القول، إنا على يقين أن سوريا الجديدة سوف تتجاوز محنة نصف قرن من الزمن، بفضل جلد، وعزيمة أهلها، وستظل قلعة الصمود العربي، ومنارة علمية لن يخبو ضوءها أبدًا.
إن المنطقة العربية بعد إنشاء الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين، لم تشهد استقرارًا، إذ سادت فيها الحروب، والفتن الداخلية، والتدخلات الغربية، والاعتداءات الإسرائيلية دون رقيب أو حسيب.
إن ما يجب على أهلنا في سوريا الجديدة في هذا الظرف العصيب، هو لم الشمل السوري بجميع مكوناته السياسية، والشروع بإعادة إعمار وبناء سوريا المدمرة، بمشاركة جميع السوريين، وبالتعاون والتنسيق مع البلدان العربية والدول الصديقة. وعلى الإخوة السوريين أيضًا أن يدركوا أن سوريا لن تبنى على طائفية، ومذهبية، وصكوك غفران، وتسييس الدين... الخ. كل ذلك من شأنه خلق الفوضى، وتدخل الدول الطامعة تحت ذريعة المصالح ومكافحة الإرهاب.
جوهر القول، يجب أن تبنى سوريا الجديدة بتعديل الدستور، وسن قوانين تتفق مع المرحلة الجديدة، وضمان الشراكة في السلطة لكل المكونات السياسية والمجتمعية، والمواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية، وحرية الرأي والرأي الآخر، ومشاركة المرأة، وإقامة انتخابات رئاسية نزيهة، بإشراف دولي، وبناء جيش وطني يحرس حدود البلاد، وتعزيز التنمية في شتى المجالات.. ورفع المستوى المعيشي المتدني للسكان... الخ.
عاشت سوريا حرة، أبية، موحدة.