صنعاء 19C امطار خفيفة

صالح الدوشان

فتىً في الثالثة عشرة من العمر، غادر قريته في خبان فورَ سماع إذاعة الجمهورية العربية من صنعاء. لم يكن يعرف متى مات أبوه؟ ولا أين مات؟ فهو دوشان يجوب القرى، ويتلمس الأعطيات والبركات. يقوم بإبلاغ ما يطلب منه، ويمتدح الوجاهات والعرسان.

 

ولج صنعاء. سرقة الدجاج في القرية والحاجيات الصغيرة في البيوت أكسبته مهارة وجرأة، ولكن الحال في المدينة مختلف؛ فأبواب البيوت موصدة، وأصحاب الدكاكين عيونهم مفتوحة، ويحاذر الاقتراب من الماشين.
لا يعرف أحدًا، ولا يعرفه أحد. مدهوش برؤية المدينة التي يدخلها أول مرة: القصور، والبيوت، والدكاكين، والملابس.
رأى سيارةً كبيرة وجنودًا ضخام الأجساد ينزلون أكياسًا قماشية. اندس كعامل فيهم، وأخذ كيسًا ثقيلاً لا يدري ما بداخله، متواريًا في زقاق، وعندما اطمأن بأن لا أحد يتبعه أو يراه، فتح الكيس المليء بالريالات الفضية الجديدة.
لا يعرف العدَّ؛ فهو لم يدخل الكتّاب، ولن تسمح له أمه ولا أهل القرية؛ فهو دوشان ابن دوشان.
شعر بالزهو وهو يحمل كيسًا لا يدري ما بداخله. الكيس الثقيل كصخرة على يافع مثله، كان خفيفًا على لص يسرق في المدينة ووسط الجنود، وينسل كجني.
أخفى الكيس بعد أن أخذ ريالين وهو غاية من الفرح والاندهاش بالثروة. اشترى ملابس أنيقة، وسكن مع عجوز في شعوب كابنها الوحيد.
بدأ يتعرف على المدينة وأحيائها وأسواقها وشبابها، واندغم في صنعاء كواحدٍ من أبنائها. همومه الكبيرة التعرف على اللصوص والصائعين.
اختار مجموعة بعناية فائقة يتعلم منهم ويعلمهم. تعرفنا عليه في القلعة في العام 1977، وكنت وقادري أحمد حيدر من تلاميذه البلداء. كان يعقد جلسات عامة وخاصة، وكنت وقادري من الخاصة.
حكى تجربته. أمضى بضعة أعوام  في القلعة. السجناء كلهم يعتبرونه عميدهم. نعرف منه الأخبار السياسية قبل أن نعرفها من الأحزاب.
السجانون وجنود السجن يهابونه ويتملقونه، ويعرفون مكائده.
الفقيه الذي سجن لشتم رئيس الدولة، يزدري الدوشان، ويهين اللصوص. سلط عليه الدوشانُ الشابَ الذي سرق جنبية رئيس الوزراء عبدالله الحجري؛ فلازمه في المسجد؛ ليتهم الفقيه بوجوده والغلام عرايا.
وواقعة ثانية، فبعد الثالث عشر من يونيو 1974 اعتقل عدد من  مشايخ القبائل ومن الضباط، بتدبير انقلاب. كانوا يتعالون على اللصوص، ويعاملونهم بدونية؛ فحرض الدوشان عليهم السجناء؛ فضربوا الضباط أبناء المشايخ والمشايخ، وفرضوا عليهم العزل داخل غرفهم.
يتحدث المساجين عن واقعة الضباط وأبناء المشايخ كأنها غزوة بدر الكبرى، وقصة الفقيه كأنها فضيحة القرن.
عندما عرف رئيس الدولة بفضيحة الفقيه، أمر بإخراجه من القلعة ليلًا، ومنحه جوازًا، وأخرجه خارج البلد، وعندما سئل وقيل له: كيف هذا، وقد قال عنك كذا وكذا؟ قال: سيقول الناس رجال الدين لو...
إلى جانب الدوشان ذراعه اليمنى علي الباجلي؛ وهو رجل كتوم. طوال اعتقالي لم أسمع منه كلمة واحدة. يسمح له الشاوش بالتحرك خارج السجن في أي وقت؛ وهو المسؤول عن جباية الإتاوات من اللصوص المنتشرين في الجمهورية.
لصالح علاقات مائزة بشباب المقاومين الثوريين؛ وهم ستة شبان أعمارهم ما بين العشرين والخمسة والعشرين.
أعدم العديد منهم بالاستدعاء بالليل، ثم إعدامهم بدون محاكمات، وربما بدون تحقيق.
الشبان في عمر الورود يتصرفون بمسؤولية رفيعة. تعلمت منهم لعب الشطرنج، وكانت صلتهم متينة بقادري أحمد حيدر، وعبدالجليل سلمان، الأمين العام لحزب الطليعة الشعبية.
طرح عليه أحدهم خطتهم للهرب؛ ليأخذوا رأيه، والرغبة في الفرار معهم. فرد عليهم أنَّ من حقهم أن يفكروا بالهرب؛ لأنَّ حياتهم مهددة، وطلب إليهم ألا يطرحوا الموضوع على السياسيين؛ لأنهم معتقلون سياسيون يمكن أن يفرج عنهم في أية لحظة.
لم يكن الدوشان الذي فر معهم في العام 1980، إلا واحدًا منهم. كانوا يدخلون حمامًا معينًا في ركن القلعة الجنوبي، وينتزعون أحجاره حجرًا حجرًا؛ حتى أوجدوا ثغرة، وتواصلوا مع رفاقهم في الجبهة الوطنية الديمقراطية، وقبل آخر ليلة من رمضان ولحظة الإفطار، كانت سيارة بجوار القلعة تنتظرهم، وما هي إلا ساعات حتى كانوا في منطقة الجبهة، ومعهم صالح الدوشان الذي استشهد وهو يقاتل كبطلٍ من أبطال الجبهة الوطنية الديمقراطية.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً