صنعاء 19C امطار خفيفة

العاقل من اتعظ بغيره

حركة التاريخ لا تتوقف، وفي كل مرحلة من مراحلها دروس وعبر، يمكن للعقلاء رؤيتها والاعتبار بها والاستفادة منها. أما غير العقلاء فلا يرون ولا يستفيدون ولا يعتبرون.

 
 ولعل الحكام هم أكثر الناس عجزًا عن الاستفادة من دروس التاريخ وعبره، بفعل ما يحيط بهم من مظاهر الأبهة والسلطان والنفوذ والثروة والنفاق والتزلف الخادع، لا يشعر كثيرون منهم بحركة التاريخ، ولا يدركون الوجهة التي يتجه إليها، ولا يحسنون التعامل مع معطياته ومستجداته. ولولا أن الحيز المتاح لمقال قصير لا يسمح بالتوسع، لأوردنا أمثلة عديدة من تجارب إمبراطوريات ودول، هوى بحكامها جهلهم، وطوى التاريخ صفحاتهم، بسبب عجزهم عن استيعاب دروسه وعبره وتبين اتجاهاته والاتعاظ من تجارب من سبقوهم من حكام، كان بعضهم أشد بأسًا منهم وأعظم قوة وأوفر ثروة وأكثر أجنادًا.
وها هو التاريخ يقدم لنا دروسًا جديدة، يبسطها أمام أنظارنا، على شكل درامي غير مسبوق. فما حدث في سوريا خلال الأيام الماضية، من أحداث متلاحقة، وانهيار سريع لمنظومة الحكم في المحافظات السورية، ثم في العاصمة دمشق، وما يحدث من احتلال صهيوني وغير صهيوني للأراضي السورية وتدمير ممنهج لمقدرات الجيش العربي السوري، قواعده البرية والجوية والبحرية وصواريخه وطائراته وسفنه ومخازن أسلحته ومراكز التصنيع العسكرية والمدنية ومراكز البحوث العلمية، واغتيال العلماء السوريين، يرسم صورة قريبة لما حدث في العراق قبل عقدين من الزمن. كل هذا لا بد أن يجعلنا نستيقظ من غفلتنا ونتنبه إلى الأخطار المحيطة بنا جميعًا بلا استثناء، بالوطن بكل مناطقه، وبالشعب بكل مكوناته.
 

ورغم الذهول الذي انتابنا ونحن نتابع وقائع ما حدث ويحدث في سوريا، فإننا معنيون بأن نمد أنظارنا إلى خلفياته وإلى القوى المؤثرة فيه، وأن نتكهن بمآلاته. بل إننا معنيون أكثر بأن نتعلم الدروس الماثلة أمامنا في سوريا، وفي الأقطار العربية التي أصابها ما أصاب سوريا، وأقطار عربية أخرى سيأتي دورها دون شك.

 
إننا في اليمن معنيون بأن نتعلم الدروس، ولا نتجاهلها ولا ندير ظهورنا لها. فنحن أحوج ما نكون إلى التعلم من التاريخ والاستفادة من دروسه والوقوف عند أحداثه، بما في ذلك الأحداث الماثلة أمامنا اليوم، لنستمد منها العظة والعبرة في قادم الأيام، التي لا شيء حتى الآن يبشر بأنها ستكون أيامًا طيبة، أو أننا سنبقى وطنًا موحدًا وشعبًا واحدًا، إذا لم نستيقظ، ونبصر حجم المخاطر المحيطة بنا، ونرجع إلى ضمائرنا، وإلى ما تبقى في دواخلنا من نوازع الخير ومن إحساس بالمسؤولية الوطنية، ونبادر إلى توحيد صفوفنا، لحماية أنفسنا والحفاظ على بلدنا وسيادتنا واستقلالنا. فقد حان الوقت، بعد عشر سنوات من الكوارث والمحن التي تلاحقت علينا، حان الوقت لأن نتخلى عن أوهامنا، وأن نتواضع، وأن يقبل بعضنا بعضًا، ويتنازل كل منا لأخيه، بدلًا من التنازل لقوى خارجية، لا تريد لنا خيرًا.
 

إن التاريخ يقدم لنا الكثير من العبر، ومع ذلك فإننا، كما يبدو، مجبولون على عدم الاعتبار، وعلى تكرار أخطائنا وأخطاء من سبقونا، ممن دفعوا مقابل أخطائهم أثمانًا باهظة، من أنفسهم ومن أهلهم ومن أوطانهم، وكأننا لا نبصر ولا نعقل.

 
لقد دخلت سوريا في دوامة الحرب والدمار التي تابعنا فصولها على مدى السنوات الماضية، وحتى هذه اللحظة. وهي دوامة قد لا تنتهي بطي صفحة حكم آل الأسد، رغم الخطاب السياسي التصالحي المعلن، الذي تطلقه الإدارة الجديدة في دمشق، والذي لا يمكن الحكم على مدى صدقه وجديته، قبل أن يتجسد في إجراءات عملية، تحقق تصالحًا شاملًا بين السوريين، وتحدث تغييرًا إيجابيًا ملموسًا في حياتهم. فمازال المستقبل غامضًا والاحتمالات مفتوحة، والساحة السورية مباحة للكيان الصهيوني ولدول إقليمية وغير إقليمية، دون أن تعلن الإدارة الجديدة في سوريا موقفًا أو تحرك ساكنًا، أو ترفع حتى احتجاجًا لفظيًا على العربدة الصهيونية.
وبالنظر إلى مجمل الظروف والملابسات التي تعيشها سوريا، وتنافر مصالح القوى الخارجية الضالعة في كل ما جرى فيها منذ سنوات، وما يجري فيها الآن، يبقى الاحتمال واردًا في أن تتفجر صراعات جديدة بين المكونات المسلحة التي أطاحت ببشار الأسد، بمختلف توجهاتها وارتباطاتها. وهذا إذا ما حدث، فسوف يهيئ للكيان الصهيوني ولبعض دول الجوار ظروفًا مواتية لاحتلال المزيد من الأراضي السورية. كما سيمهد لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وعرقية قزمة، تدين كل منها بالتبعية لصانعيها، سواءً في إطار فضفاض (دولة اتحادية) تروج له الإدارة الأمريكية منذ حين، أو بدونه.
لقد طويت صفحة حكم الأسد، كما طويت صفحات حكام كثيرين قبله، تعاقبوا على سدة الحكم في الوطن العربي، ظن بعضهم أنه سيخلد وأن شمسه لن تغيب، مهما تلبدت السماء بالغيوم، واصطخبت الأرض بالأحداث.
 

فهل يمكن أن نتعلم نحن اليمنيين، شيئًا من هذه الدروس البليغة، الماثلة أمام أنظارنا؟ إننا نعيش واقع التقسيم الذي جرى التخطيط له بعناية، وانسقنا إليه بجهالة، مدفوعين بشهوة السلطة، ولم يعد ينقصه إلا الإعلان عنه رسميًا، لتكتمل بذلك ملامح المخطط الأمريكي، الذي اشتغلت له مراكز أبحاث متخصصة وأجهزة استخبارات متعددة ومصادر تمويل عربية وغير عربية.

 
إننا نُدفع دفعًا للوصول إلى هذه النتيجة، عبر صراعات عبثية، ودعاوى جاهلية، وعمى سياسي عطل البصر والبصيرة. تحكمنا وتتحكم فينا قوى متصارعة مدججة بالسلاح، يخال كل منها بأنه مخلد غير زائل، وأن أمواج التغيير الحتمي لن تصل إليه، ولن تجرفه كما جرفت آخرين قبله.
ومن المفارقات العجيبة، أن العمى السياسي لدى القوى اليمنية المتصارعة، يقابله الحس الشعبي البسيط، الذي يدرك حركة التاريخ، كما تدرك بعض الكائنات الحية هزات الزلازل قبل وقوعها. ولذا نجد في بعض التعبيرات الشعبية، حِكَمًا بليغة، عميقة الدلالة، رغم بساطة التعبير عنها: ومن هذه الحكم البليغة، التي يرددها الناس البسطاء في اليمن وغير اليمن "لو دامت لغيرك، ما وصلت إليك". وهذا يعني أن السلطات المتعددة في اليمن لن تدوم أبدًا لمن يشغلونها اليوم، وأن بقاء الحال من المحال، وأن الزمن دوار، يوم لك ويوم عليك.
فهل آن الأوان لأن نتزود من الحس الشعبي البسيط حكمته ورؤيته الصافية، غير المشوشة بمطامع السلطة وحسابات السياسة المضللة، ونتجه نحو المخرج الوحيد الآمن من محنتنا الراهنة؟ المخرج الآمن لجميع المكونات السياسية، المسلحة والمدنية، ولكل اليمنيين، المخرج الكفيل بالحفاظ على وطننا وتحقيق أمننا وسلامة شعبنا واستقلال قرارنا، وهو المصالحة الوطنية الشاملة، والحوار الجاد الصادق، المفضي إلى بناء دولتنا اليمنية، على أسس الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية والتبادل السلمي للسلطة، عبر صناديق الانتخابات.
 

وهل ندرك أن الحكم الرشيد مصدره الشعب، فنرجع جميعنا إلى الشعب، ليقول كلمته، ويولي من يراه الأصلح لإدارة شؤونه العامة لفترة محددة، يحددها الدستور، وننتقل بذلك من منطق الغلبة والاستقواء بالسلاح، إلى منطق العقل والحكمة والحكم الرشيد، ونغلب مصلحة الوطن على مصالحنا الخاصة، ويتنازل كل منا للآخر طواعية، كإخوة شركاء في الوطن الواحد، بدلًا من أن نُجبر على التنازل مكرهين لقوى خارجية؟

 
وهل آن الأوان لنتحول من تلامذة خائبين، لا يتعلمون من عبر التاريخ ودروسه، إلى تلامذة نجباء، نحسن قراءة التاريخ ونستفيد من دروسه وعبره، وندرك ما يحيط بنا من كوارث وما يهدد بلدنا ووجودنا جميعًا من مخاطر، لا يمكن أن نواجهها إلا ونحن متحدون متماسكون متصالحون في ما بيننا متراصون في جبهتنا الداخلية، نرى السلطة مغرمًا لا مغنمًا، تكليفًا من الشعب، لا حقًا إلهيًا ندعيه، ولا حقًا مكتسبًا بقوة السلاح نستأثر به رغم أنف الشعب كله؟
وهل يكفي أن نرى ما آلت إليه أسر حاكمة، وحكام راهنوا في بقائهم على القوى الخارجية، بدلًا من المراهنة على شعبهم وعلى إخوتهم وشركائهم في الوطن، فخسروا رهاناتهم، وانتهوا إلى ما لا يحسدون عليه، هل يكفي أن نرى ذلك، لنتعظ؟ أم لا بد أن ننتظر حتى يغمرنا الطوفان، وعندها فقط تأتينا الحكمة المتأخرة، التي لا تجدي نفعًا، بعد أن فات أوانها؟
وهل نملك الشجاعة الكافية ليعترف كل منا بأخطائه وبمسؤوليته عما حدث لنا، وعما وصلنا إليه، ويبادر إلى تصحيح مساره، وإلى التصرف بروح المسؤولية الوطنية، فيمد يده للآخرين ويفتح باب الحوار الجاد معهم، ويتنازل عما يظنه حقًا مكتسبًا له، لا ينازعه فيه منازع؟
هذه بعض التساؤلات التي تشغل أذهان الناس في هذه الأيام. والجميع معني بالإجابة عليها. وأقصد بالجميع هنا، القوى السياسية اليمنية، المسلحة وغير المسلحة، وفي مقدمتها الحركة الحوثية، التي ننتظر منها أن تكون هي المبادرة إلى مد يدها إلى الآخرين، وذلك لعدة اعتبارات، منها: أولًا، أنها موحدة القيادة وأكثر تنظيمًا وأقدر على التحرك وعلى اتخاذ قرارات مستقلة. وثانيًا، أنها تمثل حتى الآن أكبر مكون عسكري وسياسي يمني مؤثر في الساحة اليمنية، مما يؤهلها أكثر من غيرها للتعامل مع الآخرين من موقع القدرة ومن موقع المسؤولية الوطنية، إذا أحسنت تقدير الموقف. وثالثًا، أنها تتحمل المسؤولية الأولى عما حدث لنا، وعما وصلنا إليه، ولذا من الواجب عليها أن تتحمل مسؤوليتها وتبذل أقصى جهودها لإخراجنا مما نحن فيه. ورابعًا، أنها قد تكون الهدف القادم لقوى محلية وإقليمية وعالمية، بعد إضعاف حزب الله في لبنان، وإسقاط النظام الحاكم في سوريا، واضطرار الإيرانيين إلى الانكفاء على أنفسهم والانشغال بهمهم الخاص، نتيجة للمتغيرات المتسارعة التي شهدتها المنطقة. وهي إذا ما استُهدفت، فلن تتضرر وحدها، بل سيتضرر معها معظم اليمنيين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لهذه الاعتبارات مجتمعة، فإن من مصلحة الحركة الحوثية، ومن مصلحة اليمن، أن تكون هي المبادرة بالاتصال بالمكونات السياسية اليمنية، بمختلف أطيافها، وباتخاذ الخطوات الأولى نحو الحوار اليمني -اليمني، ونحو التنازلات المتبادلة بين أبناء الوطن الواحد، كمقدمة للتصالح الشامل والتوجه إلى بناء الدولة اليمنية المنشودة، دولة اليمنيين جميعهم. ومن واجب القوى اليمنية الأخرى أن تمد يدها إلى الحركة الحوثية، إذا ما بادرت هذه باتخاذ الخطوات الأولى. وهذا لا يمنع أن يحاسب بعضنا بعضًا في ما بعد، عندما نكون قد انتقلنا إلى حالة نفسية وذهنية أفضل مما نحن فيه الآن، وضمنا سلامة بلدنا وبنينا دولتنا وتأكدنا من أننا قد نجحنا في تحاشي حرب جديدة طاحنة تلوح في الأفق، ستكون لو نشبت، ولا قدر الله، أكثر قسوة وأشد تدميرًا لنا جميعًا.
وأختم مقالي هذا بالقول: إننا إذا أحسنا الإجابة على التساؤلات المطروحة هنا، وغلبنا العقل، وأدرنا خلافاتنا بصورة صحيحة، في إطار الحرص على سلامة الوطن وأبنائه، فسننجح في الخروج من المحنة التي كان بأيدينا تجنبها منذ البداية، وسننجح في حماية أنفسنا ممن يتربصون بنا، وفي ردم الهوة التي أحدثناها بين أبناء شعبنا، وفي الوصول إلى أفضل صيغة للحكم نتوافق عليها ونحافظ بها على وطننا موحدًا، وعلى شعبنا متآلفًا آمنًا مطمئنًا على حاضره ومستقبله. والعاقل فينا هو من يتعظ بغيره ويحفظ الدرس جيدًا، ويستفيد منه ويعمل بمقتضاه. أما غير العاقل، فلا خير فيه، لنفسه ولا لشعبه ولا لوطنه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً