في يومياته بعنوان "البحث عن الحرية"، كتب العلامة القاضي عبدالعزيز ضياء الدين البغدادي، مقالة تحت عنوان تساؤلي: "هل نعرف الفرق بين النصر والهزيمة؟"، والتي نُشرت في "الشورى" الإلكترونية، يوم الاثنين الموافق 2 ديسمبر 2024م. هذا السؤال يُثير حوارًا عميقًا حول كيفية تقييمنا للأحداث والتحولات في مجتمعاتنا، ويعكس حالة من الوعي الذي يحتاج إلى إعادة النظر في مفاهيمنا حول النصر والهزيمة.
ومما سبق يجدر هناك عدة تساؤلات ملحة؛ إلى متى سنستمر نواصل تسمية الأمور بغير أسمائها؟ فهل نعيش في حالة من المعاناة الذهنية التي تمنعنا من رؤية الواقع كما هو؟ فالأحداث التاريخية والمآسي التي مررنا بها، مثل هزيمة حزيران 1967م التي وُصفت بـ"النكسة"، تكشف عن ميلنا للتفاؤل الزائف وتجاهل الحقائق. إن هذه التساؤلات تدفعنا إلى التفكير في المعاني الحقيقية لما نعتبره انتصارات أو هزائم.
عندما نتعرض لضغوط وهزائم من أعدائنا كما حدث مع "حماس" و"حزب الله"، نجد أن البعض يصف تلك الأحداث انتصارات أو صمودًا، بينما يعتبر آخرون الأفعال غير المحسوبة عواقبها "عمليات استباقية". نفعل ذلك دون أن نعي أننا نخدم العدو بدون وعي، فالعدو يدرك جيدًا كيف يستغل ضعفنا وترددنا، وقد كان مناحيم بيجن مثالًا على ذلك حين سئل لماذا تطالب إسرائيل باللجوء إلى التحكيم بشأن طابا في ظل اعترافها بأنها مصرية؟ فقال إن إسرائيل تعلم أن العرب قد يرتكبون حماقات تمنحها الحق في التمسك ببقاء طابا تحت سيطرتها.
عند استعراض الحروب والصراعات، نلاحظ أن ما كان مرفوضًا قبل عام 1948، أصبح واقعًا بعد ذلك، وأن ما كنا نحلم به بعد حرب 1967م، صار بعيد المنال. هذا التغير المستمر في المعايير يعكس كيف أن إسرائيل تراهن على أخطاء العرب، مما يستدعي إعادة تقييم فهمنا للنصر والهزيمة.
في مقاله، يتناول القاضي عبدالعزيز البغدادي الفرق بين النصر والهزيمة، مشيرًا إلى أن العديد من الدول التي تحررت من الاستعمار لم تشهد تحسنًا في أوضاعها، بل انحدرت. الاحتفالات الوطنية التي تقام في ظل واقع مرير، تعكس فهمًا زائفًا للحقيقة، حيث يتساءل الكاتب عن نتائج الصراع المستمر مع الكيان الصهيوني.
تتساءل هذه السطور: هل وضعت حماس في اعتبارها مآلات "طوفان الأقصى"؟ وهل صحيح أن ما قامت به كانت عملية محسوبة النتائج كما يذهب البعض، ويدللون على ذلك بأن القضية الفلسطينية كانت في طي النسيان، وأن "طوفان الأقصى" قد أحيا القضية؛ وأن المظاهرات في عواصم العالم هي علامة ذلك النصر! وحسب هذا الرأي، فهل حققت "حماس" انتصارات حقيقية كما يعتقد الكثيرون، أم أنها سلمت غزة وحزب الله وسوريا تحت ضغط الأحداث؟ أم أن ذلك أعطى مبررات للكيان الغاصب لارتكاب جرائمه تحت ذريعة الدفاع عن النفس؟
من الواضح أن حماس قد سعت من خلال عملية 7 أكتوبر لتحقيق هدف سامٍ، وهو أسر عدد من الجنود الإسرائيليين لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين. لكن، هل حققت هذه الغاية؟ بالمقارنة مع الصفقات السابقة، يبدو أن الصفقة الأخيرة التي تمت عقب 7 أكتوبر، كانت مخيبة للآمال، إذ أُطلق سراح عدد قليل من الأسرى الإسرائيليين مقابل عدد أكبر من الأسرى الفلسطينيين ليس بينهم أي من المحكوم عليهم بالسجن المؤبد أو الإعدام، وكلهم ممن تم القبض عليهم بعد "طوفان الأقصى"، مما يدل على النتائج السلبية للعملية.
ونقول إنها صفقة مخيبة للآمال، فلو ألقينا نظرة على صفقات تبادل أسرى بين الفلسطينيين وإسرائيل منذ عام 1948م، فعلى سبيل التمثل وليس الحصر، فإننا نجد أنها كلها صفقات ناجحة مثل:
1. صفقة 1968م حيث تمت مبادلة 12 أسيرًا إسرائيليًا مقابل 16 أسيرًا فلسطينيًا.
2. صفقة 1979م حيث شملت إطلاق سراح 500 أسير فلسطيني مقابل 3 أسرى إسرائيليين، وذلك بعد عملية اختطاف طائرة.
3. صفقة 1983م تمت مبادلة 4 أسرى إسرائيليين مقابل 100 أسير فلسطيني.
4. صفقة 1995م تضمنت إطلاق سراح 250 أسيرًا فلسطينيًا مقابل إطلاق سراح 6 أسرى إسرائيليين.
5. صفقة 2008م تم تبادل 20 أسيرًا فلسطينيًا مقابل جثة الجندي الإسرائيلي "إياد أبو خليل".
6. صفقة 2014م تضمنت إطلاق سراح 100 أسير فلسطيني مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط" بعد عملية طويلة الأمد.
نعم، صفقة تبادل الأسرى عام 1979 كانت واحدة من الصفقات البارزة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إليك تفاصيلها:
ومن أكثر صفقات التبادل التي حققت انتصارًا للفلسطينيين هي الصفقة التي أدارها القائد الفلسطيني أحمد جبريل، وصفقة "جلعاط شاليط"، وصورة عام 1979م التي جاءت بعد عملية اختطاف طائرة تابعة لشركة "إل عال" الإسرائيلية في عام 1972، حيث احتجزت إسرائيل على إثرها عددًا من الأسرى الفلسطينيين، وضمنت الصفقة إطلاق سراح 500 أسير فلسطيني مقابل 3 أسرى إسرائيليين. وقد أثارت الصفقة ردود فعل متباينة داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث اعتبر البعض أنها كانت تنازلًا عن القيم الإنسانية، بينما رأى آخرون أنها خطوة لتعزيز الأمن.
وقد أسهمت الصفقة في تعزيز الوعي بقضية الأسرى الفلسطينيين، وزادت من الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإعادة النظر في سياستها تجاه الأسرى.
ومما سبق يتضح لنا لماذا أقدمت "حركة حماس" على عملية 7 أكتوبر؛ ولماذا ظلت متمسكة بمائة أسير بعد الصفقة المخيبة للآمال، ولم يتبقَّ من المائة أسير سوى أقل من خمسين أسيرًا، وتراهن عليهم بعقد صفقة تبادل تشمل أكبر عدد من الأسرى والمساجين الفلسطينيين الذين تجاوز عددهم اليوم أكثر من ثلاثين ألف أسير؛ ومنذ أول شهر بعد 7 أكتوبر وإسرائيل تأسر الآلاف وتقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، والجرحى أضعاف أضعافهم، ناهيك عن تشريد أكثر من مليوني فلسطيني؛ ومع ذلك لم يتحقق ما تراهن عليه حماس، بل امتدت الخسائر لتطال حزب الله المساند الأكبر، واليوم يتساقط نظام الأسد.
ورغم هذا الرهان الذي نسأل الله ألا يكون رهانًا خاسرًا، وبخاصة في ظل رفض إسرائيل المتكرر لأي تبادل أسرى، بل تطالب بكل صلافة بالإفراج عن أسراها لدى حماس دون قيد أو شرط.
وهكذا فإن ما يجري بعد 7 أكتوبر يعكس واقعًا مؤلمًا. فبينما كانت بعض الصفقات تُعتبر انتصارات، فإن الصفقة الأخيرة التي قادها الشهيد يحيى السنوار كانت مخيبة للآمال، حيث تم إطلاق سراح 105 أسرى إسرائيليين مقابل 240 أسيرًا فلسطينيًا، ليس بينهم كما أوضحنا آنفًا أي من المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد، عكس نتائج الصفقات السابقة المشار إليها آنفًا.
في ظل الأوضاع الكارثية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، حيث يتجاوز عدد الشهداء الخمسين ألفًا، والأعداد مضاعفة من المصابين، يُطرح سؤال مؤلم: كيف يمكن للبعض أن يصف هذه الأوضاع بالنصر؟ إن الواقع المرير يستدعي منا إعادة التفكير في مفهوم النصر، بعيدًا عن العواطف والخداع الذاتي.
كما أن الاحتلال الإسرائيلي واصل ويواصل انتهاكاته، إذ هدم ولايزال مئات الآلاف من الوحدات السكنية، وأدى إلى تشريد الملايين من الفلسطينيين. في هذا السياق، يبدو أن مفهوم النصر يحتاج إلى إعادة تقييم جذري.
لذا، من الأهمية بمكان أن نقيس النصر بناءً على النتائج الفعلية، وأن نعترف بالهزائم كخطوات نحو التعلم والتطور. فالوعي الواقعي والتاريخي هو السبيل نحو النصر الحقيقي، الذي لا يتجلى في الاحتفالات، بل في الإنجازات الملموسة التي تعود بالفائدة على الشعوب والأمم. إن النصر ليس مجرد احتفال، بل هو نتيجة ملموسة وواقعية، ويجب قياسه بناءً على النتائج الفعلية، مع الاعتراف بالهزائم كخطوة نحو التعلم والتقدم.
فأي حدث أو ثورة أو أية حركة يجب أن تقاس بنتائجها؛ فإن كانت النتيجة إيجابية، فالفاعلون قد قاموا بدراسة مآلات تحركهم بدقة؛ وإن لم يقوموا بدراسة مآلات ما ينوون القيام به؛ فإن عمليتهم لا تخرج عن مغامرة غير محسوبة العواقب والمآلات، ويجب أن يتحمل المغامرون تبعات ما قاموا به هذا في المغامرات التي تخص، نتائجها فصيلًا أو حزبًا، أما إذا كانت القضية تتعلق بمصير شعب وقضية مصيرية، فإن ذلك يتجاوز المغامرة مهما كانت حسن النوايا، كما في حالة "طوفان الأقصى".